ليبيا.. «الوفاق» تتشظى

03:17 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

لا يحتاج المراقب إلى كثير من التأمل؛ ليدرك أن حكومة «الوفاق الوطني» الليبية ليس لها من اسمها أي نصيب؛ فقد تشكلت هذه الحكومة في 4 أكتوبر/تشرين الأول عام 2014؛ عبر انقلاب عسكري قامت به ميليشيات جماعة «الإخوان المسلمين» بعد شهور قليلة من هزيمة ساحقة في الانتخابات النيابية، التي حصلت فيها على (23) مقعداً فقط من مقاعد البرلمان ال(188) مقعداً.. وقامت تلك الميليشيات بطرد الأغلبية البرلمانية من العاصمة باستخدام القوة المسلحة والتهديد بالاغتيالات.

منذ اللحظة الأولى لوجودها؛ ظلت حكومة السراج معتمدة على ميليشيات «الإخوان»، وغيرها من الميليشيات الإرهابية والقبلية والجهوية، وعلى تسمية «الحكومة المعترف بها دولياً».. وعلى تجنيد المرتزقة، واستخدام فلول «داعش» و«القاعدة» من سوريا والعراق، والتسليح التركي والقطري، وإهدار أموال النفط الليبي على هؤلاء المرتزقة، وتلك الأسلحة.

ومنذ عام 2017، بدأ التدخل التركي في ليبيا يتزايد بصورة ملحوظة مع تفاقم هزائم الإرهابيين في سوريا والعراق، وبرزت الحاجة إلى أماكن أخرى؛ ل«إعادة تدويرهم»، مع اشتداد عود الجيش الوطني الليبي بقيادة اللواء خليفة حفتر، ونجاحه في تطهير الشرق الليبي من العصابات الإرهابية، وبدء تحركه باتجاه الجنوب والوسط.

ثم كان عام 2019 نقطة تحول مفصلية في الأزمة الليبية، مع نجاح الجيش الوطني في تحرير منطقة الهلال النفطي؛ (المركز الرئيسي لإنتاج الذهب الأسود) ثم تقدمه لحصار طرابلس في إبريل/نيسان عام 2019، ومع هذه التطورات بالغة الأهمية، ومع التراخي في حسم معركة طرابلس، شهد التدخل التركي في ليبيا تصعيداً نوعياً، سواء على المستوى العسكري أو السياسي، فبدأ تدفق الخبراء والمستشارين العسكريين الأتراك يتزايد، إلى جانب أعداد كبيرة من الإرهابيين المرتزقة من إدلب والشمال السوري؛ حيث بلغ عددهم ثلاثة أو أربعة آلاف (وصل الآن إلى أكثر من 14 ألفاً)، وانتهى العام (27) نوفمبر (2019) بتوقيع اتفاقيتين للتعاون العسكري، وترسيم الحدود البحرية بين أردوغان والسراج؛ ليصبح التدخل العسكري والسياسي التركي أحد أبرز ملامح الأزمة الليبية.

سيطرة «الإخوان».. وصراع الميليشيات

سيطرة «الإخوان» على حكومة السراج، والطابع الاستبدادي لحكم الأخير كانا السبب المباشر في استقالة عدد من أعضاء الحكومة والمجلس الرئاسي من أبرزهم موسى الكوني نائب رئيس المجلس الرئاسي عن الجنوب، وعلي القطراني نائب الرئيس عن المنطقة الشرقية، وفتحي المجبري عضو المجلس عن المنطقة الشرقية أيضاً (إقليم براقة- بنغازي)، مما أفقد المجلس والحكومة شرعية تمثيلهما للشعب الليبي، خاصة وأن اتفاق «الصخيرات» نفسه يقضي بانتهاء ولاية حكومة «الوفاق» والمجلس الرئاسي في ديسمبر/كانون الأول عام 2017 كحد أقصى.

غير أن استناد الحكومة إلى قوة الميليشيات الإرهابية «الإخوانية» وغيرها، وإلى أقلية برلمانية ضئيلة، هو أهم أسباب عدم شرعيتها منذ البداية.. حتى جاء التدخل التركي؛ ليصبح أهم أسباب انعدام الشرعية.

وقد كان صراع الميليشيات الإرهابية والقبلية والجهوية من أجل المال والنفوذ، سبباً لانتشار الفوضى في طرابلس ومصراتة وغيرهما من مناطق الغرب الليبي، فضلاً عن مناطق الوسط والجنوب، حتى تمكنت قوات الجيش الوطني من السيطرة على هذه المناطق. وجدير بالذكر أن هذه الفوضى وصراع الميليشيات كانا من الأسباب الجوهرية لسهولة تقدم قوات حفتر حتى مشارف طرابلس في سبتمبر/أيلول 2019.

والملاحظ أن ميليشيات «الإخوان» «ظلت دائماً الأقوى والأكثر تنظيماً واالأفضل تسليحاً سواء في طرابلس أو في مصراتة. غير أن هذا لم يمنع الميليشيات الإرهابية الأخرى؛ مثل: «داعش» و«القاعدة» فضلاً عن الميليشيات القبلية والجهوية من محاولة تحديها سعياً للحصول على المال والنفوذ، أو مكاسب وتسهيلات أخرى مثل: اقتحام محطات البنزين؛ للحصول على احتياجاتها من الوقود، أو اقتحام محطات الكهرباء؛ لإجبار مشغليها على تحويل الأموال إلى مناطق سيطرة هذه الميلشيات أو تلك، مما يتسبب في قطع الكهرباء عن مناطق ميليشيات أخرى تأتي لتشتبك مع المتسببين في ذلك، وكانت هذه الاشتباكات - ولا تزال - تجري وسط الأحياء السكنية، مما يتسبب في سقوط ضحايا بين السكان الآمنين، وفي شتى أشكال المعاناة لهم - وهو ما يثير غضباً واسعاً في صفوف هؤلاء السكان.

وإذا كانت فترة حصار الجيش الوطني لطرابلس قد شهدت بعض الهدوء في صراعات الميليشيات، فإن رفع الحصار عن العاصمة (وعن مصراتة) كان رفع الغطاء عن مرحلة جديدة، فقد اشتعلت صراعات الميليشيات من جديد، وعلى سبيل المثال فإن ميليشيات مصراته التابعة مباشرة ل«الإخوان» تحاول تعزيز نفوذها من جديد في العاصمة، على حساب ما يسمى ب«ثوار طرابلس» الأقرب إلى السيطرة المباشرة للسراج؛ فردت الأخيرة باستعراض عسكري ضخم في قلب العاصمة؛ لتأكيد سيطرتها.. علماً بأن «الثوار» يخوضون صراعاً آخر ضد ما يعرف بميليشيات «النواحي»؛ وهي من أكبر الفصائل الموجودة في طرابلس.

ومن ناحية أخرى، فإن الميليشيات (السورية) التي جلبتها تركيا بدأت تشهد حركات تمرد على الأخرى؛ بسبب تأخر المدفوعات، أو نقص الرواتب عما كان متفقاً عليه (2000) دولار للفرد.. بينما تنظر الميليشيات المحلية إليها بحسد لأن أفرادها يتلقون رواتب أقل بكثير مما دفع الأتراك لنقل «السوريين» لمعسكرات خارج المدن لمنع الاحتكاك.
وأدت هذه الفوضى بوزير الداخلية فتحي الباش آغا للمطالبة بنزع سلاح الميليشيات، الأمر الذي أغضب رعاتها جميعاً.. علماً بأن السراج هو أحد هؤلاء الرعاة.

الغضب الجماهيري

إضافة إلى هذه الفوضى الضاربة وإلى الفساد المالي والفشل الإداري، جاء احتلال الجيش الوطني لمنطقة الهلال النفطي والجنوب؛ ليحرم حكومة السراج من الموارد التي كانت تحصل عليها من تصدير نحو (مليون ب/ي)، الأمر الذي ألحق ضربة قاسية بقدرتها على الوفاء بالتزاماتها، بما في ذلك توفير الوقود لمحطات الكهرباء والبنزين، فضلاً عن استيراد السلع الضرورية.. وأدت هذه العوامل مجتمعة إلى إثارة غضب جماهيري واسع، وإلى اندلاع التظاهرات في طرابلس وغيرها من مدن الغرب الليبي ضد الحكومة و«الإخوان» وإلى مزيد من التشققات في حكومة «الوفاق».. ووجه أحمد معيتيق نائب السراج انتقادات عنيفة إلى أسلوبه الديكتاتوري في الحكومة، وإلى تفشي الفساد وتدني الخدمات، وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة، والطوابير الممتدة أمام محطات البنزين، وسلوك المرتزقة المنفلت في الشوارع، مؤكداً أن من حق الشعب التظاهر والمطالبة بمعرفة مصير أموالهم، وإذا كان هذا موقف نائب رئيس الحكومة، وقد أشرنا أعلاه إلى موقف وزير الداخلية.. فلنا أن نتخيل مواقف المعارضة والشارع.. وأن نتوقع مصيراً مظلماً لحكومة السراج.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"