أبوبكر الرازي.. أعظم أطباء الإنسانية

قامات إسلامية
02:24 صباحا
قراءة 4 دقائق
بقلم: محمد حماد

أبوبكر محمد بن زكريا الرازي (250 ه الموافق 864 م - 5 شعبان 311ه الموافق 19 نوفمبر/تشرين الثاني 923م): الأستاذ الفيلسوف، رأس الأطباء، والعالم الموسوعي، والرياضياتي، أخذ الفلسفة عن البلخي الفيلسوف حتى فاق أستاذه، وبلغ فيها درجة الفارابي وابن سينا، وألف فيها الكثير من الكتب والرسائل، وكان صبره على التأليف مضرب الأمثال؛ لكن شهرته في الطب فاقت شهرته في الفلسفة، حتى قيل: «إن الطب كان ميتاً حتى أحياه (جالينوس)، ومتفرقاً حتى جمعه (الرازي)، وناقصاً حتى أتمه (ابن سينا)».
قدم الرازي نموذجاً من أعظم صور الحضارة الإسلامية، فقد كان على رأس علماء العصر الذهبي للعلوم، وأصبح علامة عصره، وصارت مؤلفاته العديدة مرجعاً للعلماء والدارسين، خاصة في الطب، وصفته سيجريد هونكه في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب» بأنه «أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق»، وقد ضم كتابه «الحاوي في الطب»، كل المعارف الطبية منذ أيام الإغريق حتى عام 925م، وظل المرجع الطبي الرئيسي في أوروبا لمدة 400 عام بعد ذلك التاريخ.
لم يكن الرازي طبيباً فحسب، ولكنه أبدع كذلك في مجالات الأخلاق والقيم والدين، كما أبدع في مجال الإنسانية، حتى أصبح علماً من أعلام الفضيلة، كما كان علماً من أعلام الطب.


ولد ليقرأ


ولد الرازي في مدينة الري على بعد ستة كيلومترات جنوب شرقي طهران، وكان منذ طفولته محباً للعلم والعلماء، وعرف منذ نعومة أظفاره بحب العلم، فاتجه منذ وقت مبكر إلى تعلم الموسيقى والرياضيات والفلسفة، ولم يكن يفارق القراءة والبحث والنسخ، وكان جل وقته موزعاً بين البحث وإجراء التجارب والكتابة والتصنيف، وكان حريصاً على القراءة مواظباً عليها، خاصة في المساء، فكان يضع سراجه في مشكاة على حائط يواجهه، وينام في فراشه على ظهره ممسكاً بالكتاب حتى إذا ما غلبه النعاس، وهو يقرأ سقط الكتاب على وجهه فأيقظه ليواصل القراءة من جديد.
درس في بلدته «الري» العلوم الشرعية والطبية والفلسفية، ولكن هذا لم يشبع نهمه لطلب العلم؛ فلم تكن مدينة الري على اتساعها وكثرة علمائها بالمدينة، التي تحوي علوم الأرض في ذلك الوقت؛ ولذلك يمم الرازي وجهه شطر بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وعاصمة العلم في العالم في ذلك الوقت، وقد تعلم فيها علوماً كثيرة، ولكنه ركز اهتمامه في الأساس على الطب، وكان أستاذه الأول في هذا المجال هو «علي بن زين الطبري»، وهو صاحب أول موسوعة طبية عالمية (فردوس الحكمة)، كما درسه على يد إسحاق بن حنين، الذي كان متضلعاً في الطب اليوناني، والفارسي، والهندي.


معلم سبق عصره


لم يكن الرازي مجرد طبيب يهتم بعلاج المرض؛ بل كان معلماً عظيماً يهتم بنشر العلم وتوريث الخبرة، وكان الرازي يدرس تلامذته الطب في المدرسة الطبية العظيمة في المستشفى العضدي ببغداد، وكان يعتمد في تدريسه على المنهجين: العلمي النظري، والتجريبي الإكلينيكي، فكان يدرس الكتب الطبية، وبعض المحاضرات، ويدير الحلقات العلمية، وفي الوقت ذاته يمر مع طلبته على أسرّة المرضى يشرح لهم ويعلمهم وينقل لهم خبرته، وكان يدرس لهم الطب في ثلاث سنوات، ويبدأ بالأمور النظرية ثم العملية، تماماً كما يحدث في كليات الطب الآن، وكان في آخر السنوات الثلاث يعقد امتحاناً لطلبة الطب مكوناً من جزأين: الجزء الأول في التشريح، والثاني في الجانب العملي مع المرضى، ومن كان يفشل في الجانب الأول «التشريح» لا يدخل الامتحان الثاني، وهذا أيضاً ما نمارسه الآن في كليات الطب.
ولم يكتفِ الرازي فقط بالتدريس والتعليم والامتحانات لنقل العلم؛ بل اهتم بجانب آخر لا يقل أهمية عن هذه الجوانب وهو جانب التأليف، فكان الرازي مكثراً من التأليف وتدوين المعلومات وكتابة الكتب الطبية، حتى أحصى له ابن النديم في كتابه «الفهرست» 113 كتاباً و28 رسالة في الطب والفلسفة والكيمياء وفروع المعرفة الأخرى.


الحاوي في علم التداوي


أهم كتب الرازي وأشهرها كتاب «الحاوي في علم التداوي»، الذي تم تصنيفه بأنه موسوعة عظمى في الطب جمع فيه الرازي كل المعلومات الطبية المعروفة حتى عصره، وضمنه ملخصات من مؤلفين هنود وإغريق وتجاربه وملاحظاته على الأمراض، وقد تمت ترجمة الكتاب من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية وطبع أول مرة عام 891 هجرية الموافق 1488 ميلادية؛ وذلك بشمال إيطاليا، وهو أضخم كتاب طبع بعد اختراع المطبعة مباشرة، وكان مطبوعاً في 25 مجلداً، وأعيد طبعه في مدينة البندقية في القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، ويذكر المؤرخ «ماكس مايرهوف» أنه في عام 1500 ميلادية كانت هناك خمس طبعات لكتاب الحاوي، مع عشرات الطبعات لأجزاء منه.
من كتب الرازي أيضاً كتاب: «الجامع الكبير»، وهناك خطأ شائع مفاده أن «الجامع الكبير» هو الحاوي، ولكن «الجامع الكبير» كتاب منفصل عن الحاوي، جمع فيه الرازي الأمراض وطرق العلاج، وجميع الأدوية والعقاقير الطبية وطرق التحضير، وكيفية التشخيص، والأدوات الطبية التي استحدثها، وتناول فيه الأساليب الجراحية لأول مرة؛ ولذلك يعد هو وكتاب الحاوي من أهم كتب الطب.
ومن كتبه أيضاً «المنصوري»، وقد سماه بهذا الاسم نسبة إلى المنصور بن إسحاق حاكم خراسان، وتناول فيه موضوعات طبية متعددة في الأمراض الباطنية والجراحة والعيون، وقد تعمد الرازي الاختصار في هذا الكتاب، فجاء في عشرة أجزاء؛ ولذا رغب العلماء الأوروبيون في ترجمته عدة مرات إلى لغات مختلفة، منها اللاتينية والإنجليزية والألمانية والعبرية، وقد تم نشره لأول مرة في ميلانو سنة 1481م، وظل مرجعاً لأطباء أوروبا حتى القرن السابع عشر الميلادي.


وجوه أخرى للنبوغ


وللرازي كذلك كتاب «الجدري والحصبة»، الذي فرق فيه بين الجدري والحصبة، ودون ملاحظات في غاية الأهمية والدقة؛ للتفرقة بين المرضين، وقد أعيدت طباعة هذا الكتاب في أوروبا أربع مرات بين عامي (903 1283ه) (1498 1869م)، ومن كتبه أيضاً كتاب «الأسرار في الكيمياء»، الذي بقي مدة طويلة مرجعاً أساسياً في الكيمياء في مدارس الشرق والغرب.
ومن كتبه المهمة كذلك كتاب «الطب الروحاني»، الذي ذكر فيه أن غايته من الكتاب هو إصلاح أخلاق النفس، وحض على تكريم العقل، وعلى قمع الهوى، ومخالفة الطباع السيئة.
إلى جانب نبوغه في الطب والكيمياء وغيرهما من العلوم كان «الرازي» فيلسوفاً معروفاً، وله اهتمام بالعلوم العقلية، وكان يدعو العلماء وخاصة الأطباء إلى الأخذ من العلوم الطبيعية ودراسة العلوم الفلسفية والقوانين المنطقية، ويرى أن إغفال تلك العلوم يزري بالعلماء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"