ألف أسلوب للفرار من الروتين

02:44 صباحا
قراءة 5 دقائق

كان الروائي الفرنسي فلوبير يحدث ضجيجاً عالياً في الغرفة، التي يكتب فيها، كأنه يخوض معركة ضارية مع أعداء، أو مع لصوص اقتحموا بيته، حسب تعبير الروائي التونسي حسونة المصباحي، في مقال بعنوان: «العالم السري للكتاب والطقوس الغريبة للمبدعين»، فقد كان يروح ويجيء في الغرفة، ضارباً الأرض بقدميه، متفوهاً بكلمات، يرغب في معرفة صداها لدى القراء، لاعناً، باكياً.
ربما كان فلوبير محظوظاً، إذا ما قورن بالروائية جين أوستن التي لم تتمتع طوال حياتها القصيرة بالاستقلالية، والخصوصية التي تلهم المبدعين، فهي لم تعش بمفردها أبداً، ولم تحظ بفرصة أن تكون في عزلة، كانت تحرص على ألا يطلع أي شخص، يدور في فلك العائلة، على طبيعة انشغالاتها، وكانت تكتب في وريقات صغيرة، يمكن حفظها بسهولة، أو إخفاؤها بقطعة ورق، وثمة وجود لباب، يذهب ويجيء، ويحدث صريراً مسموعاً، أثناء استعماله، ولم تفكر يوماً في إصلاحه؛ لأنه كان يجعلها تعرف أن شخصاً ما يقترب.
تلك تفاصيل ما يمكن أن نطلق عليه «طقوس الكتابة» هذه التفاصيل تنشغل أكثر بالظروف، التي تتم فيها الكتابة، من دون أن تكون معنية بالمنجز، يعنيها كيف واجهت شخصيات أدبية معينة تحديات ما قبل الكتابة، وهنا يتساءل ماسون كاري في تمهيد كتابه «طقوس فنية» الذي ترجمه إلى العربية
د.خالد أقلعي: «كيف تترجم الرؤى الإبداعية الكبرى إلى حزمة من التفاهات اليومية؟ كيف تهيمن عادات عملنا على إبداعنا ذاته، والعكس بالعكس؟».


مقاومة كبيرة


تسجل الشاعرة سيلفيا بلاث في يومياتها، أنها خاضت مقاومة كبيرة، طلباً لوقت مناسب؛ من أجل كتابة مثمرة، تكتب: «من الآن فلاحقاً، سوف أرى إن كان هذا ممكناً: تعديل المنبه على السابعة والنصف، والاستيقاظ، متعبة أو غير متعبة، الانتهاء من الفطور بسرعة، ومن أشغال البيت (ترتيب الفراش، غسل، إزالة الغبار أو أي شيء آخر) في حدود الثامنة والنصف، الشروع في الكتابة قبيل التاسعة، هذا يبدد اللعنة».
هل هناك علاقة بين الطقوس والروتين اليومي؟ الروتين اليومي - كما يراه البعض - هو اختيار من أجل استثمار مجموعة من الموارد المحدودة، والزمن أكثر هذه الموارد محدودية، وكذلك قوة الإرادة والانضباط الذاتي، ويساعدنا الروتين على تجنب استبداد تقلبات المزاج، يقول: «يمكننا أن نحرر عقولنا؛ لكي نمر إلى حقول الفعل ذات الأهمية الحقيقية».
في هذا الإطار، فإن وليام جيمس وكافكا يبددان الوقت، ينتظران حضور الإلهام، يجربان حصارات معذبة، وجفافاً إبداعياً، يعانيان انعدام الأمان، إنهما مستسلمان للعمل اليومي، غير واثقين من مردوداته، دائماً يتوجسان من اليوم السيئ، الذي تتراجع فيه إنجازاتهما.
هل يحتاج فعل الكتابة إلى طقوس؟ الطقوس تعني العادات الغريبة، التي يمارسها الكاتب، قبل وأثناء الكتابة، وطقوس الكتابة تمثل عادات لا يستطيع الكاتب الاستغناء عنها؛ لأنها تغدو فعلاً لا يتجزأ من عملية الكتابة.


مشتركات


هناك أشياء تكاد تكون مشتركة بين المبدعين، مثل: شرب القهوة، فبلزاك لم يكن يبدأ الكتابة، إلا عندما يضع بجواره المزيد من القهوة، وتوفيق الحكيم كان يمارس الكتابة؛ بعد أن يشرب عدة فناجين منها؛ لكن الأكثر غرابة أن إميل زولا لم يكن يكتب إلا على ضوء شمعة، وهوجو على طاولة قديمة، وطاغور كان يتحدث إلى البحر، قبل الشروع في الكتابة.
نستطيع أن نرى في بعض هذه الطقوس «تفاهات يومية» كما قال ماسون كاري في الكتاب الذي أشرنا إليه، فكلها طقوس تبدو خارجة عن فعل الكتابة، ولا معنى لها، ومع ذلك يسميها البعض «هوامش الكتابة وعتباتها»، فإذا كان مفهوم الطقس، يشير إلى ممارسات سرية عند بعض الشعوب، وإلى ممارسات يقوم بها أتباع ديانة معينة، فإن هناك من يرى أن الكتابة بمعناها المعاصر، تشكل قطيعة جذرية مع بعض أنماط الكتابة القديمة.


وقت محدد


في الأغلب تكون الكتابة مبهمة، غير واضحة المعالم، تبدأ بكلمة أو صوت، ثم تتجمع في مخيلة المبدع، وفي لحظة ما تخرج، معلنة عن نفسها، وهذه اللحظة تسمى: اللحظة الإبداعية، ومهما اختلفت عادات المبدعين، فإن أغلبهم يعد الإنتاج اليومي، مسألة مهمة وضرورية، معولين على اتباع روتين يومي ثابت ومنتظم.
كان محفوظ، يكتب كل يوم، في وقت محدد، ويلتزم بكل مقتضيات العمل الوظيفي، فيرتدي الملابس الرسمية، أثناء الكتابة؛ لذا كان يرى أن الوظيفة الرسمية: «مادة إنسانية عظيمة، أمدته بنماذج بشرية لها أكثر من أثر في كتاباته» ولم يكن يكتب إلا في فصل الشتاء، ويميل، قبل بدء الكتابة، إلى الاستماع لمقطوعة موسيقية، ثم الإنصات إلى صوت أم كلثوم، قبل أن يتوجه إلى مكتبه؛ للبدء في الكتابة.
لا يختلف كوتزي الجنوب الإفريقي الحاصل على نوبل، كثيراً عن محفوظ، فقد كان يمتلك الانضباط الذاتي في عمله، مثلما يفعل أكثر الرهبان تزمتاً، فهو لا يتناول المشروبات الكحولية، ولا يدخن، ولا يأكل اللحوم، ويقطع مسافات طويلة على دراجته الهوائية، حفاظاً على لياقته البدنية، ويعمل لساعات محددة من صباح كل يوم، ويعرف عنه ابتعاده عن الأضواء والمؤتمرات الصحفية.
الكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف، كان يكتب بالقلم الرصاص، في بطاقات مخططة، يودعها ملفات كبيرة، وكان يتصور رواية كاملة بشكلها النهائي، قبل أن يبدأ بكتابتها، كانت هذه الطريقة تسمح له بتأليف مقاطع، بشكل غير متسلسل، في أي ترتيب يروق له، خلط أوراق، إعادة تنظيم فقرات، وبعد أشهر من إنجاز العمل، يسلم البطاقات إلى زوجته؛ لكي تنجز له نسخة مطبوعة على الآلة الكاتبة.
كان «نابوكوف» في شبابه يفضل الكتابة في الفراش؛ لكنه عندما بدأ يشيخ تغيرت عاداته، وقد وصف روتينه اليومي قائلاً: «أبدأ يوم عملي قبالة منضدة جميلة في مكتبي، فيما بعد، عندما أشعر بأن الجاذبية تنخر قدمي، أجلس على أريكة مريحة، بجانبها مكتب متواضع، عاداتي بسيطة، أذواقي تافهة».


الكتابة شتاء


تحدث محمد الماغوط عن طقوس الكتابة لديه فقال: عندما أكتب أصير كنهر بردى، أتدفق في الشتاء وأكتب، وأشيخ في الصيف، وأتوقف عن التدفق والكتابة، أما إبراهيم أصلان فكان يقول: «الكتابة حالة شتائية، ليل الشتاء أفضل للكتابة؛ لأنه أكثر طولاً، ما يعطي الفرصة للمبدع، للإحساس بمساحته وعمقه».
ولبعض الكتّاب حالات نفسية يعيشونها أثناء الكتابة، فكان خيري شلبي يتحول إلى شخص لا يُطاق، وكثيراً ما كانت زوجته تنصحه، بأن يكتب داخل سرداب، لا يرى أحداً، ولا أحد يراه؛ لذا كان يكتب في أحد أحواش المقابر، وقبل الكتابة كان يصاب باكتئاب حاد، وباعترافه هو أنه لحظة الكتابة لم يكن يطيق أولاده ولا زوجته ولا أصدقاءه، ويشعر بأنهم أيضاً لا يطيقونه، وما إن يكتب صفحة واحدة، حتى يشعر بأن العالم فسيح، وأنه سيتحرر من هذه الحالة المرضية، فيعود من جديد مكتئباً، ويواصل الكتابة، كما لو كان يقاوم، وحينما ينتهي من العمل، يتحول إلى شخص ودود.


الملابس الرسمية


كان مارسيل بروست مصاباً بالربو؛ لذا كان يكتب، بعد أن يسد المنافذ كلها، مغطياً جدران الغرفة بالورق، حتى لا تتسلل إليه أصوات، تكدّر راحته، وكان يكتب مرتدياً ثياب النوم، وعندما تضيق به العزلة، يخرج للسهر في بعض الأماكن المشبوهة، في حين أن جيمس جويس كان يكتب بالنهار، في غرفة ضيقة، مرتدياً بدلة بيضاء، وفي الليل ينطلق إلى الحانات، وبين الحين والآخر يسجل في دفتر صغير ما يسمعه من حكايات، وعلى الرغم من أن الشاعر أبولينير كان يقيم في شقة من أربع غرف، فإنه كان يفضل الكتابة في المطبخ، على طاولة صغيرة، أما الكاتب الألماني توماس مان فلم يكن يجلس أمام الورقة البيضاء، إلا بعد أن يلبس بدلة أنيقة، كأنه ذاهب إلى حفل رسمي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"