ليبيا.. السلام التركي المراوغ

03:10 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد فراج أبو النور*

شعور عام بالارتياح والتفاؤل على المستويين الإقليمي والدولي، أشاعه الإعلان المفاجئ عن اتفاق الطرفين المتصارعين في ليبيا (البرلمان الوطني وحكومة السراج) على وقف إطلاق النار، واستئناف جهود التسوية السياسية (21 أغسطس الجاري).

الإعلان كما هو معروف، جاء في بيانين مستقلين، صدر أولهما عن فايز السراج، رئيس حكومة «الوفاق»، والثاني عن المستشار عقيلة صالح، رئيس البرلماني الوطني الليبي.

الارتياح والتفاؤل يخالطهما بعض علامات الحذر، بالنظر إلى اختلاف طريقة كل من الطرفين في صياغة بيانه، واختلاف نقاط تركيز كل منهما في ما يتعلق بأمور مهمة. أما الأكثر إثارة للحذر فهي التطورات التي لا يمكن تجاهلها، والتي سبقت الإعلان، وتلته.

في ما يتصل بالتطورات السابقة على الإعلان، تعني تحديداً زيارة وزيري دفاع تركيا وقطر إلى طرابلس (17 أغسطس الجاري)، وما نتج عنها من اتفاقات مجافية تماماً لإعلان وقف إطلاق النار وما يترتب عليه، ونشير بصفة خاصة إلى الاتفاق على إقامة قاعدة عسكرية تركية في مصراتة، وتعزيز الوجود العسكري التركي في قاعدتي «الوطية» ومعيتيقة وغيرها (أكثر من ثلاثة آلاف ضابط وجندي حتى الآن)، وكذلك تعزيز التعاون بين الأطراف الثلاثة في مجالات التدريب والتسليح والتدريب وغيرها. كما نشير إلى الاتفاق على منح جوازات سفر ليبية للإرهابيين المرتزقة الذين جلبهم أردوغان من سوريا أساساً، والصومال وغيرهما، والذين يبلغ عددهم حوالي عشرين ألف مقاتل إرهابي.


تفاوض أم خداع؟


واللافت للنظر أنه بينما كان السراج يتفاوض حول بيان وقف إطلاق النار، فإنه كان في الوقت نفسه، يعقد هذه الاتفاقات مع أنقرة والدوحة، وهو ما يحمل المراقبين على الشك في نواياه هو وتركيا وقطر، علماً بأن أنقرة لم تعلن موافقتها على بيان السراج؛ بل أعلنت أن مجلس الأمن القومي التركي سيجتمع خلال أيام لتحديد موقفه منه.

وعلى الرغم من إعلان السراج التزامه بوقف إطلاق النار، فإن أنقرة تواصل حشودها البحرية أمام السواحل الليبية في وضع هجومي، كما تم احتلال ثلاث مدن ساحلية صغيرة، أهمها (الخميس) خلال الأيام الأخيرة.

وأعلن الناطق الرسمي باسم ميليشيات «الوفاق» المدعو محمد قنونو، رفضه لدعوات إطلاق النار.

وباختصار فإن فوضى وانفلات الميليشيات الإرهابية وصراعاتها لا تجعل من المضمون تنفيذ التزامات السراج، حتى لو أراد.


الحديث بلغات مختلفة


ملاحظة أخرى بالغة الأهمية ومثيرة للقلق الشديد، هي قراءة السراج للاتفاق المختلفة جوهرياً عن قراءة البرلمان الوطني ورئيسه عقيلة صالح، فبينما يتحدث بيان البرلمان عن ضرورة التوصل بسرعة إلى تشكيل مجلس رئاسي جديد، تكون سرت مقراً له، ويتم تأمينه من خلال قوة أمنية مشتركة من مختلف أقاليم ليبيا، دون الحديث بالطبع عن انسحاب الجيش الوطني من سرت أو الجفرة في المرحلة الحالية من جهود التسوية، فإن السراج يتحدث عن انسحاب الجيش الوطني من خطر سرت - الجفرة؛ بل ومن منطقة الهلال النفطي بأكملها كمرحلة أولى .

وهو ما دفع المستشار صالح للتصريح بأن مبادرته لم تتضمن أي حديث عن تحويل سرت والجفرة إلى منطقة منزوعة السلاح، كما أعلن اللواء المسماري، المتحدث باسم الجيش الوطني، رفض الجيش الانسحاب «ولو قيد أنملة» عن خط سرت - الجفرة.

والحقيقة أن ما يتحدث عنه السراج هو نوع من «التذاكي» يهدف لتحقيق انتصار استراتيجي كبير دون إطلاق رصاصة واحدة، وحتى دون تقديم مقابل سياسي..

ومن ناحية أخرى يتحدث السراج عن انسحاب المرتزقة الأجانب عموماً، دون أن يشير إلى جيش حقيقي قوامه 20 ألفاً، يمثله المرتزقة السوريون، الذين جلبهم أردوغان والذين تستعد طرابلس لمنحهم جوازات سفر ليبيا، فلا يعودون بعد ذلك أجانب.

وأما عن الميليشيات وحلها، فإن السراج وأردوغان يريدان مساواة بين ميليشيات «الإخوان» و«داعش» و«القاعدة» الإرهابية، وبين الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير حفتر، وهم يعلنون صراحة أن «قوات حفتر هي ميليشيات».

وهكذا نجد أنفسنا أمام اللعبة التي يتقنها أردوغان، ويمارسها في سوريا منذ سنوات؛ أي إطلاق أسماء جديدة على المنظمات الإرهابية، فالقاعدة تصبح «النصرة»، ثم «هيئة تحرير الشام»، والجيش الوطني يصبح «ميليشيات»، وهكذا وتظل الأطراف تتفاوض لسنوات، كما هي الحال في إدلب دون نتيجة، بعد أن يكون الشرق قد سلم أهم أوراقه التفاوضية، أي خط سرت الجفرة، ومن ورائه «الهلال النفطي» فيا له من ذكاء.


النفط والبنك المركزي


يدعو السراج ومن ورائه الأتراك والغربيون، لرفع حصار الجيش الوطني عن حقول النفط والغاز واستئناف التصدير، على أن يتم تجميد العائدات في حساب باسم مؤسسة النفط الوطنية ضمن حسابات المصرف المركزي الليبي، لا يتم الصرف منه إلا وفق ترتيبات سياسية، وتحت إشراف الأمم المتحدة.

ومعروف أن اتفاق الصخيرات يعطي «الوفاق» السيطرة على «مؤسسة النفط» و«المصرف المركزي» وقد تم توزيع عشرات المليارات من الدولارات خلال السنوات الماضية على المرتزقة والصفقات المشبوهة (وإيداع 8 مليارات دولار بدون فوائد في البنك المركزي التركي)، وسافر محافظ المصرف المركزي الليبي للاجتماع برئيس أجنبي (أردوغان) وتلقى الأوامر منه بشأن التصرف في أموال الشعب الليبي، وكل هذا تحت سمع وبصر المجتمع الدولي.

لهذا، فإن استئناف ضخ النفط والحصول على عوائده يحتاج إلى ترتيبات صارمة تضمن للشرق الليبي مشاركة في الإشراف على الموارد، والحصول على نصيب عادل منها، ومحاسبة المسؤولين عن تبديد أموال الشعب الليبي بتواطؤ دولي، تحت دعاوى الشرعية.

وتظل السيطرة على النفط هي الورقة التفاوضية الأقوى والحاسمة في بلد (الشرق) وهي ورقة مدعومة بالحشد العسكري المصري الكبير، وإنذار «الخط الأحمر» ودعم عربي ودولي واسع، ويظل الحذر الشديد واجباً من كل ألاعيب ومزالق «السلام» الأردوغاني السراجي.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"