أزمة الهوية في المشرق

04:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

تتسم دول المشرق العربي في تشكّلها بعد اتفاقية «سايكس بيكو»، بسمات عديدة مشتركة، ستبرز في أكثر من محطة من المحطات التاريخية خلال القرن الماضي، وتبدو هذه السمات في اللحظة الراهنة شديدة الوضوح، منها أزمة الهوية، ولا يمكن الاكتفاء بالقول إن الدولة الوطنية في المشرق العربي انتهت إلى فشل سياسي كبير، وإن هشاشتها وفوضاها الراهنة هي النتيجة المنطقية والحتمية لهذا الفشل، ومع أن هذا القول صحيح، فإنه سيكون اختزالياً من دون تفكيك أزمة الهوية، وهي أزمة مشتركة في العراق ولبنان وسوريا.
الجدل حول أزمة الهوية في المشرق العربي ليس جديداً، لكنه أخذ منحى تصاعدياً مع الحرب السورية، وتعمق أزمة ما يسمى «الديمقراطية التوافقية» في العراق ولبنان. وإضافة إلى الوقائع المرعبة في الانقسام المجتمعي، وغياب السياسات العقلانية، هناك أيضاً صعود لخطاب فكري/سياسي طائفي، في جانب كبير منه هو خطاب تبريري، لكن وجوده بهذه الحدة، يجعل من مهمة تفكيك أسسه مسألة في غاية الأهمية؛ إذ لم تعد الحلول السياسية التوافقية التي غالباً هي نتيجة ضغوط إقليمية ودولية، لم تعد ناجعة في معالجة الانقسامات المجتمعية.
يشكل معالجة الظلم الواقع على الفرد والجماعة أحد الاهتمامات الأصيلة للفلسفة السياسية المعاصرة، ويأتي مفهوم «الاعتراف» كركن أساسي في هذه الفلسفات، ومن الواضح أن أحد أهم التحديات الكبرى في القرن الحالي هو معالجة قضية الهوية، بوصفها حالة من حالات التعدد الهوياتي/الثقافي، وهي تأخذ في عالمنا المعاصر أشكالاً مختلفة، لكنها في المشرق العربي تبدو امتداداً لأزمات قديمة، لا يمكن مقاربتها على نسق تعدد الهويات الناجم عن العولمة، لكن من دون أن يعني هذا الأمر عدم الاستفادة؛ بل والاستعانة بمفاهيم الفلسفة السياسية الحديثة في معالجتها.
يؤكد مفهوم «الاعتراف» تباين الهويات، وضرورة الاعتراف بتباينها، خصوصاً التباين الإثني والديني والطائفي، وعدم اعتبار أن هذه التباينات هي مجرد تباينات تاريخية وعقائدية، وإنما أيضاً تباينات ثقافية؛ أي تباينات في الهوية الثقافية، وهو ما يسهم في رؤية جديدة للآخر، لا تقوم على الاستعلاء، أو الطعن في هوية الآخر، أو محاولة اختزاله كمياً، من حيث قياس نسبة الجماعة الإثنية أو الدينية أو الطائفية، فالحق في الاختلاف ليس مسألة خاضعة للكم؛ بل لمبدأ حق الاختلاف الذي يؤسس لمفاهيم جديدة، أو يدفعنا لرؤية المشكلات الواقعية بطريقة مختلفة، خصوصاً مسألة الطائفية، تمهيداً لإعادة النظر في معالجتها، فثمة فرق شاسع بين وجود الطوائف كأمر تاريخي واقعي وبين الطائفية كاستخدام سياسي في عملية الصراع على الثروة والسلطة.
يربط الفيلسوف الكندي المعاصر تشارلز تايلور بين مفهومي «الاعتراف»، و«الكرامة»؛ إذ إن أحد الأسئلة الأساسية في تأصيل تايلور لمفهوم «الاعتراف» هو سؤال الكرامة الإنسانية؛ إذ لا يمكن الاعتراف بالفرد أو الجماعة، من دون تأكيد الكرامة الإنسانية، ويذهب تايلور إلى أن المواطنة تغدو مسألة فاقدة للأهمية من دون الاعتراف بحقي الاختلاف والكرامة، اللذين شهدا تطورات كبيرة في النظر إليهما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن تمت مراجعة تجربتي الفاشية والنازية على وجه التحديد.
المشرق العربي بما يحتويه من تنوّع إثني وديني وطائفي، فشل في مستويات عديدة أساسية في ضمان حقي الاختلاف والكرامة، وقد تم تجيير وجر هذا التنوع إلى حلبة الصراع الأيديولوجي والسياسي، وجعله جزءاً لا يتجزأ من عملية الصراع على الدولة، وأصبح العنوان الرئيسي هو ما يطلق عليه اسم «المظلومية»، بعيداً عن أي محاولة جادة وعقلانية لجعل التمايزات والتنوع جزءاً من عملية الاعتراف، على قاعدة أن تفكيك المشكلات والأزمات «المظلومية» لا يمكن أن يحدث إلا من خلال عدة بنى وأشكال، من بينها بنى الدولة نفسها، لجعل مسألة حفظ الكرامة مسألة مرتبطة بالمواطنة، وما يترتب عليها من حقوق وواجبات.
إن جذور أزمة الهوية في دول المشرق، في أحد أوجهها، هي انعكاس للحظة ولادتها، من رحم التوافقات الاستعمارية، ما بعد سقوط السلطنة العثمانية، لكن استمرار تلك الجذور في لعب دور مستمر يغدو مسألة عبثية لا طائل منها، ومن هنا فإن التصور العقلاني/السياسي، وكذلك الإنساني، يقتضي التأسيس لجملة من الاعترافات، وليس التنكر لها، وفي مقدمة تلك الاعترافات أن الدولة الوطنية لم تعد بتعريفها كافية من دون المواطنة؛ أي من دون تحقيق مبدأ الكرامة من دون تمييز.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"