سوريا.. حرب ضد الإرهاب والتقسيم

02:58 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. محمد فراج أبو النور *

تراجعت أخبار سوريا عن صدارة عناوين الصحف ونشرات الأنباء في العالم العربي والدولي خلال الأشهر الأخيرة، أمام صخب الأحداث الساخنة المتلاحقة في المنطقة والعالم.. غير أن هذا لا يعني أن الحرب في هذه البلد العربي الشقيق في سبيلها إلى الانتهاء. وإذا لم تكن سوريا تشهد معارك وتطورات كبرى خلال الفترة الحالية، فإن الاستعداد لجولات مقبلة مستمر.
نجرؤ على القول إنها - الحرب - لا تمضي في المسار الذي رسمته أمريكا وغيرها من الدول الكبرى وتصورات أن «قانون قيصر» وغيره من منظومات العقوبات سيفضي إليه.
وعلى سبيل المثال، فقد كانت منطقة شرق الفرات منطقة خاضعة للسيطرة العسكرية الأمريكية، حتى اتخذ الرئيس ترامب قراره الفردي والمتسرع بالانسحاب منها في أكتوبر (2019)، معطياً الضوء الأخضر لأردوغان لغزو المنطقة، وإقامة حزام أمني بعمق يتراوح ما بين (30 و40 كم) فيها، وهو الأمر الذي كان سيعني حدوث مذابح رهيبة للأكراد.
وقد أجبرت البنتاجون والمخابرات الأمريكية ترامب على التراجع عن هذا القرار، وإعادة بضع مئات من الجنود لحماية حقول البترول في الحسكة ودير الزور.. لكن الأكراد - الذين أحسوا بالذعر من خطر الغزو التركي - سارعوا للاتفاق مع روسيا على انتشار قوات روسية وسورية حكومية في المنطقة لمنع أردوغان من احتلالها.. وخلال يومين فقط تمت عملية نقل ضخمة للقوات والعتاد إلى شرق الفرات.. واحتلت القوات الحكومية وحلفاؤها الروس مواقع استراتيجية بالغة الأهمية على الحدود مع تركيا، ومدناً كبرى ومطارات - بما فيها مطارات وقواعد أمريكية - كانت ستحتاج إلى سنين من القتال المرير لكي تسيطر عليها!! وبديهي أن أحداً لم يكن يطلب من هذه القوات الانسحاب من مواقعها الجديدة.


دلالات التموضع الروسي الجديد


والأمر المهم للغاية هنا هو أن جماهير أغلب هذه المدن والبلدان استقبلت القوات السورية استقبالاً حاشداً كشف بوضوح عن سخطها على «قسد» والإدارة الذاتية الكردية.
هذه الاستجابة السريعة من جانب روسيا للموقف الناشئ خلقت واقعاً استراتيجياً جديداً في منطقة شرق الفرات، أتاح لموسكو منع أردوغان من تحقيق خطته التوسعية الضخمة، ولم يسمح له إلا باحتلال المنطقة الواقعة بين رأس العين وتل أبيض بعمق (30 كم) - أي نحو عشر المساحة التي كان يريد احتلالها.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه الخطوة أتاحت لروسيا امتلاك عشرات القواعد العسكرية شرقي الفرات، أهمها مطار القامشلي، الذي تحول إلى قاعدة جوية كبيرة شمال شرقي سوريا.. وأصبحت للقوات الروسية آلاف الجنود والآليات في المنطقة.
أما بالنسبة للجيش السوري، فإن قواته وصلت إلى الحدود الشمالية والشرقية للبلاد، وإلى المدن والبلدان الكبرى في شرق الفرات.. والأمر الذي لا يقل أهمية هو أن دمشق استعادت اتصالها بمواطنيها في المنطقة، الذين التفوا حول جيش وسلطات بلادهم، وبالتالي فإن واقعاً سياسياً وجماهيرياً جديداً نشأ في المنطقة. واتجه الجزء الأكبر من أبناء العشائر العربية، فضلاً عن الأقليات القومية مثل الأرمن والأشوريين والشركس، للالتفات حول الجيش السوري والسلطات المدنية المرتبطة به، وهو ما أدى إلى عزلة واضحة ل «قسد»، وأدى لانسحاب الكثيرين من قواتها، وأضعفها كثيراً من الناحية السياسية.. كما مثل حاضنة جماهيرية كبيرة للقوات السورية والروسية.
ومن ناحية أخرى، فإن التنظيمات الأمنية والسياسية السورية نجحت في تنظيم أعداد من الشبان الوطنيين - فضلاً عن المزاج الوطني العام السائد، الأمر الذي انعكس في بدء عمليات للمقاومة المسلحة ضد القوات الأمريكية والكردية.. أيضاً ضد الفصائل الإرهابية التي أتى بها أردوغان لاحتلال منطقة تل أبيض - رأس العين.. ومما شجع على انتشار هذه الظاهرة رغبة السكان في الانتقام من عمليات حرق المحاصيل، ونهب الممتلكات التي تقوم بها «قسد» والفصائل الإرهابية الموالية لتركيا.. وجدير بالذكر أن هذه الحركة يتسع نطاقها باستمرار.
كما أن سكان البلدان والقرى كثيراً ما يتعرضون للدوريات الأمريكية، ويمنعون مرورها بأجسادهم، كما ينظمون المظاهرات ضد «قسد»..


من يتراجع؟


القوات الأمريكية بالرغم من قلة عددها (600-700 رجل) تنتشر في عدد كبير من القواعد، على رأس قوات «قسد». وقد ظلت لفترات طويلة تتصرف وكأنها غير معترف بشرعية وجود القوات الروسية، وحتى السورية.. وتقيم الحواجز وتمنع مرور الدوريات، أو تمر بدورياتها من الحواجز القائمة بأساليب خشنة، وبدون استئذان.. ونادراً ما تتراجع.. حينما تكون القوة المواجهة لها كبيرة..
لكن يوم (25/8) المنقضي شهد حادثاً مهماً، حيث منعت القوات الروسية مرور دورية أمريكية، ووقع صدام أدى إلى جرح أربعة جنود أمريكيين.. واستدعى إجراء اتصالات بين رئيس الأركان الأمريكي والروسي لتتم تسوية آثار الحادث بالاتفاق على مراعاة قواعد التنسيق بين الطرفين في حركة القوات.. وهذا تطور جديد مهم، يشير إلى أن إبداء إرادة صلبة أمام التصرفات المنفلتة المعتادة يمكن أن يوقفها عند حدها.
والحقيقة أن التطور الكبير في انتشار وتسليح القوات الروسية والسورية خلال الأشهر الماضية.. واتساع نطاق عمليات المقاومة المسلحة هي عوامل جديدة لا يمكن للقوات الأمريكية أن تتجاهلها، لأنها، ببساطة تعكس تغيراً واضحاً في ميزان القوى.
ومن ناحية أخرى، فإن تطور انتشار وتسليح القوات السورية والروسية في المنطقة الشرقية من البلاد قد أتاح إمكانية إحباط عدة عمليات إرهابية كبيرة قامت بها قوات «داعش» في مناطق بادية حمص وبادية تدمر (وسط البلاد)، وإلحاق خسائر فادحة بالقوات المهاجمة.
واللافت للنظر أن هذه العمليات لا نجد إبرازاً لها في الإعلام العربي والدولي.


إدلب.. المعركة المقبلة


على الرغم من الهزائم القاسية التي تكبدتها القوات التركية والمنظمات الإرهابية في معارك تحرير شرق وجنوب إدلب ومحيط حلب، والطريق الدولي (M5) الشتاء الماضي.. فإن المنظمات الإرهابية ظلت تحتل مناطق مهمة في جبل الزاوية وما حوله في جنوب إدلب.. كما أن أردوغان قد نكص بوعده - كالعادة - فيما يتصل بفتح طريق حلب - اللاذقية (M4) وتأمين جانبيه بمنطقة عازلة تسيطر عليها القوات الروسية.. وأكثر من ذلك أنه دفع بقوات تركية كبيرة إلى المنطقة.. وسمح للإرهابيين بتعزيز قواتهم.
وفي المقابل قامت القوات السورية و«الحليفة» بالدفع بقوات كبيرة إلى المنطقة.. وهي تقوم بقصف قوات الفصائل الإرهابية بصورة مؤثرة في جنوب إدلب وشمال اللاذقية.. وتلحق بهم خسائر مؤلمة، بدعم قوات من الطيران الروسي. وتتحين الوقت المناسب للهجوم.. ونظراً لأن أردوغان مشتبك في معارك على جبهات كثيرة هذه الأيام، فلا يعتقد الخبراء العسكريون أن أداء قواته سيكون أفضل مما كان عليه في معارك الشتاء الماضي.. في حين أن وضع وتسليح القوات السورية والحليفة أفضل مما كانا عليه.


* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"