الشعر ابن الضمير

03:09 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد عبدالله البريكي


الحياة الشعرية سلسلة من المفارقات الإبداعية بعفويتها وإنتاجها الذي يظل في ذاكرة الزمن، والأجيال التي سطرت قصيدة الشعر العربية قدمت رؤيتها الفردية والجماعية بحسب طبيعة المناخ الشعري وتوارد الأفكار واتساق الشكل والبناء والمضمون، وهو ما جعل القصيدة العربية نقطة ارتكاز بين مختلف الأجيال من ناحية تنوعها وتنوع أنماطها، لكن تظل هناك قضية محورية تتمثل في مسألة النصح والتناصح. على مر الزمن كان هناك مستويات عدة تحكم طبيعة الإبداع، وتؤكد مكانة كل شاعر من خلال ما يقدم من نتاج، وهو ما يجعل الحياة الشعرية ترصد لنا الشعراء الذين بقيت أسماؤهم لامعة في الذاكرة، وفي المقابل نجد شعراء خفت بريقهم، وقل الاهتمام بهم، وهذا يدل على أن معظم الشعراء كان لهم آباء يحتذون بهم ويمضون خلفهم، وأساتذة يستمعون إليهم، لكن درجة تقبل الشاعر للنصيحة يعتمد على إدراكه بحركة تطور الشعر، وضرورة أن يمضي نحو التفرد، ما يفتح مجالاً واسعاً للبحث عن جذور النصيحة في الشعر العربي، وهل هي تلقى اهتماماً من الشعراء؟.

للإجابة عن السؤال السابق سنجد أن أجيال الشعراء تواردت بينهم النصيحة في مختلف الأزمان، لكن بدرجات معينة، خصوصاً أن التعامل مع اللغة وروافدها المعرفية يحتاج إلى خبرات جمالية، وهو ما كان يحدث نوعاً من تبادل الآراء بين الشعراء حول المعاني التي كانت تستخدم في الماضي، وأشعل حركة النقد أيضاً، وعندما كان الشعراء يستمعون إلى بعضهم بعضاً، كانوا يبدون آراءهم في ما كان يعرض، ويحدث حركة تواصلية تسهم في تجويد العمل الشعري والوصول به إلى مستويات أفضل، لكن لم يكن كل الشعراء لديهم القدرة على تقبل النصيحة، كونهم يشعرون أنهم على هرم الإبداع، وأن ما يكتبون لا يمكن أن يكون مادة للآخرين ينتقدونها ويحطون من قدرها، وفي القرن الماضي حدثت قضية بين الأجيال بسبب تنوع الأنماط الشعرية، وأصبح كل طرف يرى أنه الأفضل والأقوى، وهذه التحولات جعلت الشعراء يذهبون في طرق متعددة، كلٌ يبحث عن إثبات الجدوى، فأصحاب التيار القديم عملوا على التجديد، وحاولوا أن تكون القصيدة العمودية جزءاً من تطور الشعر عبر الصورة والخيال والبناء ومستوى الفكرة، والوثوب نحو غايات جديدة، وهو ما فتح المجال للمجاز بكل أشكاله المختلفة، وأن يسعى الشاعر إلى تركيب الجملة الشعرية عبر الاستعارة والترميز، والاستفادة من فكرة تراسل الفنون، وبالنسبة للوجه الآخر، فقد تبنى أصحاب التفعيلة موقفاً مغايراً من أصحاب العمود، وانطلقوا نحو التجديد، فاتسعت الهوة أيضاً، أما أصحاب النثر، فقد ذهبوا مذاهب شتى، وعرجوا نحو آفاق التجديد بأسلوب حطم المعاني الراسخة لشكل القصيدة العربية، لكنهم في ذروة هذه الأشكال الشعرية، حلقوا بقصيدتهم في فضاء مختلف، فانسلخوا عن جذور الشعر العربي وأهدافه ورسالته، وهو ما أدى إلى رفض كل طرف للآخر.

وأصبحت الأنماط الشعرية هي ساحة التنافر، وعدم تقبل الآخر، وعلى الرغم من هذه التطورات في جسد القصيدة، ورفض كل شاعر النصيحة من آخر، كان هناك طرف آخر متزن، يزن الأمور بمعايير نقدية، ويحلل ما وصل إليه الشعر العربي، ويقيس العلاقة بين كل الأطراف، ويقدم رؤية واضحة مفادها التقبل، وأن المجال مفتوح لكي يثبت كل طرف أنه صاحب إبداع مع توافر الشروط الأساسية لحركة تطور الشعر، والنتيجة أنه من الضروري أن يكون هناك مساحات بين الشعراء تسمح بإزالة فوارق كثيرة حتى تكون النصيحة في الشعر هي الحبل الذي يشد قارب الشعر نحو الشطآن الآمنة، لأن هناك عقيدة راسخة في جوهر الإبداع تتمثل في أنه من الضروري أن يكون لكل شاعر ذوقه ولغته، لكن من الضروري أيضاً أن يستمع إلى نصيحة الآخر الذي قد يسبقه إبداعياً ولغوياً وفكرياً، مع احترام أن الإبداع حالة فردية في مجراها، وأنه من الممكن أن يحدث توافق بين أصحاب كل نمط، فيكون في هذه الحالة الإبداع جماعياً، لكن تبقى روح الشعر هي المسيطرة والغالبة، لأن كل شاعر يكتب من ضمير نفسه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"