ضـــد التلقيـــن

03:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
علاء الدين محمود

تمتلئ الميديا ومواقع التواصل الاجتماعي بمواضيع على شاكلة: «كيف تصبح مبدعاً»، أو «كيف تصبح أديباً، شاعراً، روائياً»، وهي تعيد إلى الأذهان تلك الكتيبات الصفراء الصغيرة المختصرة في زمن مضى، والتي تداعب أشواق الشباب في تعلم اللغات الأجنبية، تلك التي تحمل عناوين جذابة مثل: «كيف تتعلم اللغة الإنجليزية في أسبوع»، بل وتنشأ منافسة حول تقليل عدد الأيام فهناك من كان يطرح كتيب يحمل عنوان: «كيف تتحدث الإنجليزية بطلاقة في خمسة أيام»، متبوعة بكلمة «فقط»، وبالطبع فإن الهدف من مثل هذه الكتيبات ربح صاحبها فقط، فالمرء لا يستطيع تعلم لغة ما في أسبوع أو أقل، ولئن كانت تلك الكتيبات تغازل رغبات الشباب في زمن مضى على تعلم اللغات، فإن التطور الكبير في وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي في زمن العولمة قد طرح نوعاً آخر من الكتابات الإعلانية التي تداعب رغبة الشباب في أن يصبحوا مبدعين وكتاب وأدباء، خاصة أن تلك الوسائل قد فتحت الباب واسعاً لممارسة فعل الكتابة، فالجميع الآن في مقدوره أن يكتب منشوراً في موقع التواصل الاجتماعي، ما أدى إلى نشأة نوع من المنافسة حول من يكتب بصورة أفضل.

إن الكثير من الشباب من رواد تلك المواقع والصفحات يفتقدون إلى موهبة الكتابة الإبداعية، ما أدى ذلك إلى ظهور مجموعة من «الخبراء»، الذين يقدمون أنفسهم كمتخصصين في مسألة الكتابة الأدبية، ويقدمون نصائح وتوجيهات تدعي إمكانية تعليم الشباب خطوات الكتابة الإبداعية.

وإمعاناً في جذب الشباب نحو تلك الكتابات، فإن أصحابها من «الخبراء»، يضعون بعض المعلومات التي تجمل المنتج الإعلاني وتجعله جاذباً، مثل الادعاء أن الكتابة الإبداعية تساعدك على زيادة دخلك؛ بمعنى أنك إذا نجحت في إتباع الخطوات التي يمدك بها «الخبير»، فمن شأنك أن تصبح مؤلفاً، بالتالي يمكنك أن تزيد دخلك الأساسي لو كنت موظفاً أو طبيباً أو صاحب أية مهنة، وذلك بالطبع ابتذال وعبث، الهدف منه أن يحقق الخبير ترويجاً لما يكتب، والمفارقة أن تلك المعلومات أو النصائح التي تقدم هي معلومة بالضرورة لدى أي كاتب ناشئ، فالواقع أن الموهبة الحقيقية لا تصنع من خلال مختبرات النصائح تلك، بل عبر صقلها بمزيد من القراءة والتأمل، وبصورة عامة فإن مثل هذه التوجيهات تعبر عن روح العصر الذي تسود فيه ثقافة الاستهلاك والدعاية، بحيث يراد للكتابة نفسها أن تصبح نوعاً من البضاعة يروج لها عبر المواضيع ذات الصبغة الإعلانية.

إن ذلك الأمر لا ينطبق بتلك الكيفية التي أوردناها على الورش الإبداعية، التي لا تصنع هي الأخرى كاتباً أو مؤلفاً، بل يكون إسهامها في حدود التعريف بالتقنيات والفنيات، لكن ذلك الأمر لن يفلح بطبيعة الحال مع الذين لا تتوافر لديهم موهبة داخلية حقيقة، بالتالي استعداد وقابلية للتطور، فمن دون تلك الموهبة تصبح حتى الورش الإبداعية مجرد عبث.

من جانب آخر فإن المؤلفات التي يطرحها أدباء كبار في هذا الشأن، تتحدث عن خبرتهم الذاتية والطرق التي سلكوها، وأحياناً تكون مجرد تأملات في سيرة مؤلفين آخرين، مثلما فعل الروائي أورهان باموق، في مؤلفه «الروائي الساذج والروائي الحساس»، فالكتاب يتحدث عن مرحلتين في حياة الكاتب وهما فترة البدايات التي شكلته، والتجارب التي صنعت منه مؤلفاً بارعاً، ويتحدث عن تجارب الكثير من الروائيين الناجحين والعوامل التي أسهمت في تميزهم، وهو يضعها أمام القارئ بصورة عامة، وكذلك الكتاب الشباب من أجل الاطلاع على تلك السير الحياتية، بالتالي هي لا تحمل توجيهات أو تتبع منهجاً تلقينياً تعليمياً، وقد اقتبس باموق عنوان مؤلفه من مقال لشاعر ألمانيا الكبير شيللر الذي يتحدث فيه عن الشاعر الساذج، وفيه يطلب من الشعراء الحفاظ على فطرتهم الأولى التي شكلت موهبتهم، وهناك أيضاً الروائي ميلان كونديرا، في كتابه «فن الرواية»، والذي يقدم فيه الرجل مواضيع متعلقة بأسرار الكتابة الروائية وأدواتها، فهو بالتالي ليس كتاباً تعليمياً.

ومن خلال تجارب العديد من المؤلفين والنقاد المبدعين، فإن النتيجة الأساسية التي يتم التوصل إليها أن الكتابة الإبداعية تفسدها النصائح، لأنها تغلق الباب أمام مسارات عديدة ولا تعرف إلا طريقاً واحداً، وهذا ما أشار إليه الكاتب الأمريكي مارك مانسون، الذي لاحظ إقبال الشباب على كتب المساعدة الذاتية والتطوير الشخصي، حيث أكد أنها لا تقدم إلا الأوهام، ولعل ما يدفع الكثير من الشباب في العالم العربي نحو الحصول على مثل هذه المؤلفات التي توفر النصائح في كيفية الكتابة الإبداعية، هو طرق التعليم السائدة، والتي تعتمد على التلقين، وترسخ في الأذهان أن بإمكان المرء أن يتعلم أي شيء عن طريق الحفظ، وهذا يتنافى بالطبع مع الأدب والكتابة الإبداعية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"