حوكمة الهجرة ورهانات السلام

23:04 مساء
قراءة 4 دقائق

د. إدريس لكريني

أصدرت المنظمة الدولية للهجرة أخيراً، تقريراً مهماً حول الهجرة في العالم لعام 2020، الذي جاء حافلاً بالمعلومات والإحصائيات التي تواكب الظاهرة، من حيث أبعادها وتطوراتها وإشكالاتها المطروحة في مناطق مختلفة من العالم.

يحاول التقرير أن يصحح تلك الصورة النمطية والقاتمة عن الهجرة، والتي غالباً ما تربطها بعدد من الإشكالات السياسية والثقافية والأمنية، من خلال الوقوف على عدد من الإنجازات يُسهم بها المهاجرون، سواء بالنسبة لدول الاستقبال أو المصدر، أو بالنسبة للإنسانية جمعاء. كما يقف أيضاً على الإشكالات التي تواجه فئات المهاجرين، في ما يتعلق بالاندماج داخل البلدان المستقبلة، ومدى استعداد هذه الأخيرة وانفتاحها على الهجرة والمهاجرين عبر عدد من المداخل والسياسات كالتعليم، والمشاركة السياسية، ولم شمل الأسر، وقدرة المهاجرين أنفسهم على التأقلم والتكيف مع المجتمعات التي تحتضنهم.

يؤكد التقرير العلاقة القائمة بين الهجرة والصحة، حيث تتزايد المخاطر في هذا الخصوص بالنسبة للمهاجرين الذين يشتغلون في ظروف غير آمنة، كما ينبّه أيضاً إلى أن هجرة الأطر الصحية نحو الخارج استجابة للنقص العالمي الحاصل في هذا الخصوص، يتطلّب الأخذ بعين الاعتبار، قدرة النظم الصحية للبلدان الأصلية، وانعكاسات الظاهرة على جودتها وفاعليتها أيضاً.

ويبرز التقرير أهمية حوكمة الهجرة على المستوى العالمي، انطلاقاً من أن تحصيل نتائج صحية وإيجابية من الظاهرة، يقتضي إرساء إدارة عالمية جيّدة في هذا الشأن، كما يقف التقرير على عدد من الخطط والاتفاقيات التي اعتمدها المجتمع الدولي بصدد الهجرة والصحة، سبيلاً لمد الجسور بين الهجرة والتنمية والصحة على المستوى العالمي، مثلما هو الأمر بالنسبة للاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية، وأهداف التنمية المستدامة التي تؤكد في عدد من مرتكزاتها، أهمية الجمع بين الهجرة والتنمية والصحة في إطار من التناسق والتناغم.

يرصد التقرير عدداً من الإشكالات التي باتت تطرحها هجرة الأطفال، مع التسهيلات التي طالت كلفة السفر، وتغير المناخ وتطور تقنيات الاتصال الحديثة، وتزايد الفجوة الاقتصادية بين عدد من المناطق في العالم، وتنامي المعضلات الاجتماعية داخل عدد من الدول. وعلى الرغم من الجهود الدولية المبذولة، فإذا كانت هجرة عدد من الأطفال مؤمنة، خاصة عندما تتمّ في إطار الأسرة، فإن هناك كثيراً من الأطفال غير المحميين الذين يتعرضون لعدد من الانتهاكات والمعاناة على امتداد رحلاتهم في بلدان المنشأ والعبور والاستقبال، كما عرّج التقرير على مختلف العوامل البيئية المغذية لظاهرة الهجرة ضمن التفاعل القائم مع مختلف العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية والديمغرافية الأخرى.

ويتوقف الفصل الحادي عشر من التقرير عند الصعوبات التي يلاقيها المهاجرون العالقون في الأزمات، وهي الأوضاع التي تعمّقها ظروفهم القانونية والاقتصادية، حيث يواجهون إشكالات حقيقية، في ما يتعلق بالحصول على الوثائق والمعلومات والمساعدات، كما قد يتعرضون لعدد من الانتهاكات تحت ضغط هذه المحطات الصعبة. ولعل ما يزيد الأمر صعوبة، افتقار كثير من الإجراءات والتدابير على طريق التخفيف من هذه الصعوبات إلى التخطيط والفاعلية بعد التطرّق لمستجدات الحوكمة العالمية للهجرة، من حيث الاتفاقيات المبرمة، والجهود الدولية المبذولة (صياغة اتفاقيتين غير ملزمتين تدعمان التعاون الدولي، في ما يتعلق بقضايا اللاجئين والهجرة). لا يخفي التقرير في فصله الأخير تخوفاته في هذا الإطار، خاصة أن كسب هذا الرهان يتطلب تجاوز المقاربات السيادية الداخلية، وبلورة تعاون مستدام على الصعيدين الإقليمي والدولي، يدعم تنقّل الأشخاص عبر الحدود بصورة آمنة ومنظمة وبمردودية إيجابية بالنسبة للجميع.

على امتداد السنوات الأخيرة، حدثت كثير من التدفقات البشرية في اتجاهات مختلفة، بحثاً عن فضاءات آمنة، تكفل العيش الكريم، أسهمت فيها كثير من النزاعات والأزمات المنتشرة في عدد من مناطق العالم، كسوريا واليمن وميانمار.. ولم تخل هذه الرحلات في جزء كبير منها، من مآسٍ ومعاناة ناجمة عن الغرق أو الجوع أو التعرض للسرقة والاغتصاب والعنف.

تبرز الإحصائيات الواردة بصدد الهجرة، أن الظاهرة بكل أشكالها، هي في تزايد ملحوظ، فهناك في الوقت الحالي، أزيد من 272 مليون مهاجر في العالم، بنسبة تشكل 3.5% من سكان الأرض، 74% منهم في سن العمل، وأكثر من 60% منهم هاجروا بحثاً عن الشغل.

على امتداد التاريخ الإنساني استأثرت الهجرة بأدوار طلائعية، أسهمت في إرساء السلام عبر نشر العلوم والثقافات والديانات، وتعزيز التواصل والتلاقح بين الشعوب والحضارات. كما تعد الظاهرة من ضمن العوامل التي تثري التنوع الثقافي داخل المجتمعات، وتسهم بشكل كبير في دعم اقتصاديات الدول، وتعزيز قدراتها العلمية والصناعية والفلاحية والتكنولوجية، ناهيك عن المساهمة البناءة في تحقيق التنمية المستدامة. إن إرساء حوكمة الهجرة وجعلها في خدمة التنمية والسلام العالميين، يبدأ من تصحيح صورة الهجرة والمهاجرين، وانتشالها من تلك النمطية التي كرّستها التيارات اليمينية داخل عدد من الدول الغربية بربطها بالعنف والتطرف، وتعزيز الحماية اللازمة للمهاجرين، من كل الأخطار والتهديدات، ومن مظاهر الإقصاء التي تواجههم، وتوفير الشروط السليمة لاندماجهم في بلدان الاستقبال.

وأخيراً، يمكن القول إن الحد من تدفقات الهجرة بكل أنواعها، يظل مشروطاً باستيعاب العوامل التي تغذّيها، وبإرساء سبل استراتيجية ومحوكمة تستحضر البعد الإنساني والبناء للظاهرة في هذا السياق.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​باحث أكاديمي من المغرب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"