عادي

مونتسكيو..ثورة علمية في الفكر

22:18 مساء
قراءة 3 دقائق
1

يعيد «لوي ألتوسير» في كتابه «مونتسكيو السياسة والتاريخ»، ترجمة نادر ذكرى، الاعتبار من جديد لهذا المفكر الفرنسي الكبير، لا من حيث كونه واحداً من أهم المفكرين والمنظرين، الذين مهدوا بفكرهم للثورة الفرنسية ( وهو التفسير الشائع لمونتسكيو)، وإنما من حيث هو المفكر الذي أحدث ثورة منهجية بصياغته وتطويره لجملة من المبادئ النظرية، تمحورت حول فكرة إنشاء فيزيقا اجتماعية، تمتلك منهجاً مماثلاً لمناهج العلوم الطبيعية، بحيث يسمح لها هذا المنهج بتفسير الاجتماع الإنساني وآلياته تفسيراً علمياً.

وإذا كان «ألتوسير» يحدد هنا موقع مونتسكيو في تاريخ الفكر الأوروبي كاستمرار لديكارت وهوبز وسبينوزا، إلا أنه يوضح أيضاً في نفس الوقت القطيعة المعرفية والمنهجية، التي قام بها مونتسكيو مع أسلافه، محرراً بذلك السياسة والتاريخ، أو بالأحرى واضعاً السياسة والتاريخ كعلمين، بعيداً عن التصورات الأخلاقية والميتافيزيقية.

غير أن «ألتوسير» يكشف لنا أيضاً عن السياسي في شخص مونتسكيو، أي عن الموقع الذي وقف فيه في خضم الصراعات السياسية في عصره، كما يتوقف ملياً عند فهمه لأنواع الحكم وأشكاله وخصوصاً «نظام اللحظة» على حد تعبير مونتسكيو، لا من حيث هو شكل يعبر عن طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في مجتمعات الشرق، وإنما من حيث هو تهديد قائم، كان يراود الحكومات الملكية في أوروبا آنذاك، ولربما هو الشبح الذي يجول بحرية في أجواء العديد من مجتمعاتنا.

يقول ألتوسير في مقدمة كتابه: «أود أن أعطي عن هذه الشخصية التي نراها منحوتة في الرخام صورة حية بعض الشيء، أنا لا أفكر في الحياة الداخلية لسيد كانت تغمره الأسرار لدرجة أن النقاش لا يزال محتدماً، لتقرير ما إذا كان قد بادل زوجته الحب أم لا، أو إن كانت قد استبدت بقلبه أهواء سن العشرين، بعد أن تجاوز الخامسة والثلاثين، ولا أفكر بالحياة اليومية لزعيم البرلمان بعد أن تعب من البرلمان، ولا في السيد المستغرق في أراضيه، ولا في زارع الكرمة الحريص على تجارته، آخرون قد قاموا بذلك ويجب أن نقرأ ما كتبوا، إنني أفكر بحياة أخرى غلفها الزمان بظله والتعليقات ببريقها». هذه الحياة حياة مفكر أبقاه شغف الحقوق والسياسة لاهثاً حتى النهاية، وأبقى عينيه على الكتب متعجلاً كسب السباق الوحيد الذي رغب من كل قلبه بإنجازه حتى الموت، ألا وهو إتمام عمله، لم يكن يرغب بغير «الفهم» إن لدينا عنه بعض الصور التي تفصح عن هذا المجهود وعظمته، لم يكن يغوص في الأكداس اللامتناهية للوثائق والنصوص والإرث الهائل للتاريخ والوقائع والمقتطفات والنصوص المنتحلة إلا لالتقاط وجه المنطق فيها واستخلاص العقل منها، كان ينطلق صوب المجهول حقاً، لكن المجهول كان بالنسبة له أرضاً جديدة أيضاً.

لهذا السبب نجد لدى مونتسكيو تلك البهجة العميقة – يقول ألتوسير – التي نجدها لدى المكتشف، إنه يدرك ذلك ويدرك أنه يأتي بأفكار جديدة ويقدم عملاً لم يسبق له مثيل، وإذا كانت كلماته الأخيرة بمثابة تحية الأرض التي ظفر بها أخيراً، فإن كلمته الأولى كانت للتحذير من أنه انطلق وحيداً ولم يكن له معلم إطلاقاً، ولم تكن لديه الفكرة الأم، إنه يلاحظ أن من الواجب عليه الكلام بلغة جديدة، بما أنه يعلن حقائق جديدة.

يقول ألتوسير: «لكني مازلت أفكر بحياة أخرى، تلك الحياة التي تخفيها غالباً تلك الاكتشافات التي يعود فضلها إليه، باختصار لموقف مونتسكيو من صراعات زمانه، إن تقليداً مطمئناً جداً يريد من مونتسكيو أن يلقي على العالم نظرة رجل لا مبال، عديم الالتزام، ألم يقل هو نفسه إنه كان بالضبط مؤرخاً، لأنه كان بملجأ من السلطة وإغراءاتها، متحرراً من كل شيء بصدفة عجيبة، قادراً بالضبط على فهم كل شيء، لأنه متحرر من كل شيء، لقد بدت لي هذه الصورة كالأسطورة، وإني آمل بإظهارها».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"