عادي

خلاصة «الحقيقة»..أكاذيب في كل مكان

00:34 صباحا
قراءة 4 دقائق
1603

الشارقة: محمد إسماعيل زاهر
متى توقفت آخر مرة أمام حدث أو موقف، لتقول بغضب: ما هذا الهراء؟ أو طالعت خبراً أو قرأت مقالة أو بحثاً، لتهتف: ما هذه السخافة؟ وهل قررت بشجاعة أن تتوقف عن متابعة أحد مواقع التواصل بعد أن اكتشفت كمية الهذيان الذي تتعرض له على مدار الساعة؟ وماذا عن شعورك بعد أن اكتشفت خطأ تاريخياً يتعلق بمعلومة تلقيتها خلال طفولتك في المدرسة أو سمعتها- شاهدتها في إحدى وسائل الإعلام؟ هي أسئلة تتسلل إلينا بعد قراءة كتاب «الحقيقة.. لمحة مختصرة عن تاريخ الهراء» للصحفي توم فيليبس، لتثير فينا شعوراً بأن الأكاذيب تحيط بنا في كل مكان.

إذا طالعت الكتاب من أجل التسلية، فستجد الكثير من الوقائع والمعلومات التي توضح لك كم الأكاذيب التي نتعرض لها، أكاذيب في السياسة والإعلام وحتى في كتب التاريخ، ومنذ الصفحات الأولى يعلن فيليبس عن ما يؤرقه في الحياة: «فنحن نقضي أيامنا ونحن نسبح في بحر من الهراء، وأنصاف الحقائق، والأكاذيب المطلقة». أما إذا كنت من الباحثين العاشقين للدقة فستتوقف أمام مفردتين يستخدمهما الكاتب بالمعنى نفسه: الكذب والهراء، وهذا اللبس لا يعود إلى الترجمة، فعنوان الكتاب بالإنجليزية: «truth..a brief of total bullshit»، أي أنه يعني كلمة «هراء»، وربما يستخدم «كذب» نيابة عنها كثيراً نتيجة لطبيعة الكتاب، الذي لا يتوخى الدقة الاصطلاحية بقدر إثارة شغف القارئ وإمتاعه.

بعد أن نتجاوز ثنائية هراء ــ كذب، لنستمتع مع فيليبس بأنواع الكذب، الذي قسمه القديس أوغسطين إلى ثمانية أقسام: كذب في التعاليم الدينية، الكذب الذي يضر بالآخرين ويفيد صاحبه، الكذب لمجرد الاستمتاع، الكذب الذي يهدف إلى جذب انتباه المستمع، الكذب الذي لا يضر أحداً ويساعد صاحبه مادياً، الكذب الذي لا يضر أحداً ويساعد صاحبه معنوياً، الكذب الذي يهدف إلى تجنب انفصام العلاقات الاجتماعية، والكذب من أجل الكذب، ونحن نستطيع أن نضيف على هذه الأنواع: الكذب من أجل التجمّل أمام الآخرين، الكذب على النفس، الكذب في الإبداع، أجمل الشعر أكذبه، ولتسأل نفسك ما هو اليوم الذي مر عليّ في حياتي ولم أتعرض لنوع من أنواع الكذب؟ والأكثر أهمية وفق هذه التصنيفات سؤال: من منا لم يكذب؟

لنترك تلك الأسئلة المزعجة، التي ربما تحيلنا إلى أطروحات أعمق وأكثر تعقيداً حول الكذب نفسه، كما فعل جاك دريدا في كتاب «تاريخ الكذب»، لنترك الكذب في عراكه الأبدي مع الحقيقة، ونعود إلى «هراء» فيليبس.

في الحياة اليومية، يقترح علينا فيليبس طريقة كتاب «الفيدا» المقدس لدى الهنود التي من خلالها نعرف الشخص الكذاب- المروج للهراء: «لا يجيب عن الأسئلة، أو يعطي أجوبة متملصة، ويحرك إصبع قدمه الكبيرة على الأرض ويرتعش، وجهه شاحب، ويمرر أصابعه على جذور شعره، ويحاول بشتى الطرق مغادرة المكان».

ولكن ماذا عن الكذب المحلق، «الكذبة تستطيع القيام بجولة حول الأرض في الوقت الذي تكون فيه الحقيقة تنتعل حذاءها»، مقولة لا يعرف فيليبس لمن تعود، ذلك الكذب المؤسساتي الذي يصدر عن وسائل إعلام، وعن كتّاب وعن شركات دعاية.. الخ، كيف نعرفه؟ ولكن قبل محاولة التعاطي مع هذا السؤال، لنلقي نظرة سريعة على أبرز محطات تاريخ الهراء.

محطات

في بداية أغسطس/آب عام 1835 اعتقد معظم سكان نيويورك في وجود مخلوقات تشبه الوطاويط وتعيش على القمر، وكانت صحيفة «الصن» تقدم قصة جديدة كل يوم للقراء حول اكتشافات متلاحقة حول شكل الحياة على القمر: حياة نباتية، حيوانات وحيد القرن، معابد، حتى أن مكتب الصحيفة حوصر من قبل آلاف الأشخاص الذين يريدون معرفة بقية الحكاية بعد أن توقفت الصحيفة عن النشر، لقد كانت هذه أول حكاية هراء كبرى في التاريخ الحديث، فـ«الصن» حاولت جذب قراء في مدينة تشهد كل يوم تأسيس صحيفة، ولم تجد إلا ابتكار قصة أحد العلماء الذي اخترع تلسكوباً «لا سابق له» في رأس الرجاء الصالح يمكنه من مشاهدة سطح القمر بدقة.

كانت الخرائط الأوروبية في القرن التاسع عشر تتضمن سلسلة جبال شاهقة تدعى «كونج»، تمتد في غرب القارة السمراء، وتحيط بمملكة قوية تحمل الاسم نفسه، والغريب هو كمية الحكايات التي سردها مغامرون عن هذه الجبال الخيالية التي لم يكن لها أي وجود في الواقع سوى خيال رسام الخرائط جيمس رينال الذي وضع هذه الجبال على خريطة صممت عام 1789، والأكثر دهشة أنه بعد اكتشاف الكذبة في أوائل القرن العشرين استمرت جبال كونج على الخريطة لفترة من الزمن.

ولكن هــــل اختفــــى الهراء فـــي عصر التكنولوجيا؟ ففي عام 2012 أبحرت باخرة باتجاه جزيرة على خرائط جوجل تدعى جزيرة «ساندي»، لتكتشف الباخرة أنه لا وجود للجزيرة، ما اضطر «ناشيونال جيوجرافيك» إلى إزالة الجزيرة عن خرائطها.

صدمات

حكايات الهراء في الكتاب كثيرة، ولكن كيف نكتشفه؟ كيف نعرف الأكاذيب التي تتعرض لها عقولنا كل يوم؟ ولكن بعد أن تنتهي من الكتاب سينتابك شعور غامر بالمتعة، فأنت قرأت بشغف حواديت نصابين ومغامرين ومحتالين، وابتسمت في أعماقك نتيجة للخداع الذي تعرض له بعض البشر، برغم إدراكك أنك ربما ستقع فيه يوماً، الأمر الذي سيدفعك للبحث عن حكايات أخرى للهراء، وهو ما يؤكد أن الكثير من أحاديثنا عن الوعي وضرورة الوصول إلى الحقيقة هي هراء بدورها، فالحقيقة باردة وجافة، وربما صادمة وقاسية وكابوسية للبعض منا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"