عادي
أشهر الخطب

أحذركم الدنيا

00:22 صباحا
قراءة دقيقتين
رمضان

خطب قطري بن الفجاءة، وهو أحد بني مازن بن عمرو بن تميم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد، فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات،وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها غرارة ضرارة خوانة غدارة، وحائلة زائلة، ونافذة بائدة، أكالة غوالة، بذالة نقالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها، والرضا عنها، أن تكون كما قال الله تعالى «كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا».
مع أن أمرأ لم يكن منها في حبرة إلا أعقبته بعده غبرة، ولم يلق من سرائها بطناً إلا منحته من ضرائها ظهراً، ولم تطله غيمة رخاء إلا هطلت عليه مزنة بلاء، وحرى إذا أضحت له منتصرة أن تمسي له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر عليه منها جانب وأوبى..
وإن آتت أمرأ من غضارتها ورفاهتها نعماً، أرهقته من نوائبها نقماً، ولم يمس امرؤ منها في جناح أمن إلا أصبح منها في قوادم خوف، غرارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطل حزنه، ويبكي عينه.
كم واثق بها قد فجعته، وذي طمأنينة قد صرعته وذي اختيال قد خدعته، وكم من ذي أبهةٍ فيها قد صيرته حقيراً، وذي نخوة قد ردته ذليلاً، كم من ذي تاج قد كبته لليدين وللفم..
سلطانها دول، وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام، وقطافها سلع، حيها بعرض موتٍ، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام، مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجامعها محروب، مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطلع والوقوف بين يدي الحكم العدل «لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى»
ألستم في مساكن من كان أطول منكم أعماراً وأوضح آثاراً وأعد عديداً وأكثف جنوداً، وأعند عنوداً، تعبدوا الدنيا أي تعبد وآثروها أي إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصغار، فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفساً بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكت بخطب، بل قد أرهقتهم بالفوادح، ضعضعتهم بالنوائب، وعقرتهم بالمصائب، وقد رأيتم تنكرها لمن دان لها وآثرها، وأخلد إليها، حين ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر المسند..
هل زودتهم إلا الشقاء وأحلتهم إلا الضنك، أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"