عادي
لا مفر من ذكريات الحرب

«الملاك الصامت».. رواية هاينرش بول الأزمة

00:15 صباحا
قراءة 3 دقائق

كانت رواية «الملاك الصامت» لهاينرش بول في حكم المفقودة؛ حيث إنها لم تنشر في ألمانيا لأول مرة إلا في عام 1992 أي بعد كتابتها بأكثر من أربعين عاماً، وكان هاينرش بول قد كتبها بين عامي 1949 و1951 بعد عودته إلى كولونيا من جبهة القتال، التي قضى فيها ست سنوات جندياً في مشاة ألمانيا، أثناء الحرب العالمية الثانية، وكان وصفه الصادق لآثار الحرب مرعباً، ولم يكن هناك ناشر يجرؤ على نشرها.

في شهر يناير عام 1950 لم يكن هاينرش بول قد نشر روايته الأولى بعد، وكان يمر بحالة من اليأس الشديد، ففي رسالة إلى أحد أصدقائه يكتب عن الظروف المحبطة: «لو شرحت لك حالتي في الأشهر الثلاثة الأخيرة لما صدقت، وأعتقد بأن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذا النحو، لا زوجتي تستطيع أن تتحمل أكثر من ذلك ولا أنا، والروايات والقصص لا تساوي شيئاً أمام دمعة واحدة تذرفها، فإلى الآن لا أستطيع أن أكون كاتباً حراً يعيش من الكتابة، ويبدو أنني قد اخترت أمراً مستحيلاً، لابد من الاعتراف بأنني قد وصلت إلى طريق مسدود».

كان بول في تلك الأثناء يضغط على نفسه، لكي يكمل روايته، حتى تدعم وضعه الأدبي عند القراء، ذلك الوضع الذي كان قد بدأ منذ روايته القصيرة «جاء القطار في موعده» والتي كانت قد صدرت قبل هذا التاريخ بعام واحد، لكن القسط الشهري الذي كان ناشر أعماله يدفعه له، لم يكن كافياً لإعالة أسرته، وكانت النتيجة أنه توقف عن العمل في هذه الرواية (الملاك الصامت) أكثر من مرة، ليكتب قصصاً قصيرة، تحقق له دخلاً سريعاً.

بعد 22 عاماً من هذا التاريخ سيفوز بول بجائزة نوبل، وكان الناشرون قد نبهوه إلى النتائج المدمرة، في الرواية، على الرغم من أنه كان يؤكد لهم أن العمل لا يصف الحرب ذاتها: «الرواية تبدأ بيوم الاستسلام، ثم تعود تدريجياً إلى بداية الحرب، الفصل الثاني لا يوجد به أي شيء عن الحرب، لا شيء تقريباً عن المرحلة التالية لها، تلك الأرض الرحبة للفساد وللسوق السوداء، إنها تصور بؤس ناس المرحلة، وصراعهم مع الجوع، كما تروي حكاية حب بأسلوب بسيط، يتفق مع الطبيعة المقتضبة لجيل عاد إلى الوطن، فلم يجده».

يبدو أن هذه النبذة التي قدمها هاينرش بول إلى الناشرين، لم تبدد مخاوفهم، لكنه واصل الكتابة وأرسل إليهم المخطوطة في أغسطس عام 1950 فلم ترق له الفكرة، صحيح أنهم لم يعترضوا كتابة، لكنهم طلبوا منه مراجعة النص، وفعل ما أرادوا، ومع ذلك لم يوافقوا، ومع أنه كان يكتب في الوقت نفسه مجموعة قصص قصيرة «أين كنت يا آدم؟» عام 1951 تحمسوا لها وبدأوا في نشرها على الفور.

أصبح واضحاً لدى بول أن «الملاك الصامت» لن تنشر، فطلب من الناشرين أن يعيدوا إليه المخطوطة، وفيما تلا ذلك من سنوات كان قد تحقق كاتباً من أعظم كتاب ألمانيا بعد الحرب، ولم تنشر الرواية طوال حياته (21 ديسمبر 1917 – 16 يوليو 1985) فقرر أن يستخدم الكثير من مادتها في قصص وروايات تالية، ولذلك فإن القارئ الملم بأعمال بول يلحظ عناصر عدة من الحبكة الروائية، وجوانب من الشخصيات، وبعض أجزاء من السرد، في أعمال أخرى له، كما أنه استخدم الكثير من أفكار الرواية الرئيسية، وقام بتطويرها في أعمال أخرى مثل «المهرج».

ونشرت الرواية لأول مرة عام 1992 بمبادرة من «مركز بحوث هاينرش بول» في الذكرة الخامسة والسبعين لميلاده، وكانت تلك خطوة مهمة، لأن الرواية بمثابة مفتاح لجميع أعماله التي جاءت بعد ذلك، ومثل هاينرش بول نفسه يعود «هانز» بطل الرواية من الحرب إلى مدينته المدمرة، جائعاً ضائعاً فلا يجد شيئاً، لم يجد الشوارع والبيوت والكنائس ولا المجتمع الذي تركه خلفه، قبل أن يذهب إلى الجبهة، وجد عالماً آخر تباع فيه الهويات وتشترى، إلا أنه يجد بصيص أمل في بعض النفوس التي لم تمت تماماً، وفي منزل مظلم يكتشف الحب.

موضوع مؤرق

عندما رفض الناشرون الألمان هذه الرواية في الخمسينات، كانت ألمانيا قد بدأ يحركها ما هو أبعد من الشعور بالذنب والجوع والفقر، وعندما نشرت كان هناك فتور في نظرة النقاد لها، لموضوعها المؤرق الذي يدق باب الذاكرة بعنف، من خلال استحضار مناخ اليأس، واستعادة أيام تم اختزال الإنسان فيها على مجرد فم مفتوح، وعلى الرغم من هذا فإنه عندما أعلن عن وفاة «بول» في يوليو 1985 اجتاحت موجة حداد ألمانيا بشطريها آنذاك، ونكست أعلام دولتين لم تتفقا على شيء قدر اتفاقهما على رجل ترك بصمات لا تمحى على تاريخ الأدب الألماني.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"