الهوية في المجتمع الشبكي

00:28 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

منذ أن أطلقت ثورتا التقانة والاتصالات إمكانات جديدة للتفاعل البشري عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بدأ الباحثون الاجتماعيون على تنوّع اختصاصاتهم رحلة جديدة للكشف عن التحولات التي أوجدها عالم الإنترنت في المجتمعات، وقد أصبح مصطلح المجتمع الشبكي متداولاً للتعبير عن المجتمع الجديد الذي أوجدته وسائل التواصل الرقمية، لكن هذا المجتمع يحتاج إلى أدوات جديدة لتحليله، على خلاف المجتمع التقليدي، خصوصاً أن إحدى الميزات الرئيسية للمجتمع الجديد هي إتاحته الفرصة للتواصل المباشر، بعيداً عن الكثير من الحواجز التي توجدها التقسيمات التقليدية للمجتمعات، من مثل المهنة، والطبقة، والدين، ومستوى التعليم، وغيرها من التقسيمات الاجتماعية التي تشكّل حدوداً قوية في معظم المجتمعات، مع فوارق في الدرجة غالباً وليس في النوع.

لم تكن مسائل الهوية بعيدة عن تأثيرات المجتمع الشبكي؛ بل ربما أصبحت هذه المسائل تحت التأثير المباشر لممكنات وخصائص هذا المجتمع، فسردية الهوية التي كانت سردية رسمية إلى حد بعيد، مشمولة بدعم الإعلام التقليدي، راحت تتعرض إلى تخلخل المرجعية، فلم يعد الإعلام التقليدي هو المرجع الوحيد للسرديات بصفة عامة، ومن ضمنها بالطبع سرديات الهوية، والتي تقوم بشكل رئيسي على عناصر، يفترض أنها قوية، لما تتمتع به من جوهرية من جهة، وتاريخية من جهة ثانية، لكن الإعلام الشبكي، بوصفه إعلاماً مفتوحاً، فهو ببنيته ليس معنياً بالحفاظ على السرديات الرسمية، فهذه مهمة لا تقع ضمن نطاقه، فهو لا يمثل سلطة بعينها تتوجه إلى جمهور بعينه.

وعلى الرغم من أن مبدأ الهوية ذاته هو مبدأ متناقض؛ إذ إن ما نعتبره صفات جوهرية يتعرض في كل لحظة للتغيّر، لكن هذا التناقض بقي على الدوام محكوماً بالبنى الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وبطبيعة الثقافة نفسها من جهة ثانية، ومع ثورتي التقانة والاتصالات أصبحت الهوية تحت ضغط تحولات متسارعة، نتيجة للتدفق الغزير للمعلومات، إضافة إلى خاصية التفاعل السريع من قبل الجمهور، وهي المرة الأولى في تاريخ البشرية التي يحدث فيها هذا التواصل في منأى عن الرقابات المتعددة، مع إتاحة الفرصة لكل مستخدم أن يبني الصورة التي يشاء عن ذاته، بغض النظر عن مطابقتها للحقيقة.

تاريخياً، تشكّلت الهويات في إطار العلاقة بين الجمهور والسلطة (اقتصادية، سياسية، دينية، إلخ)، ولعبت السلطات وتحولاتها دوراً محورياً في التغيّرات التي حدثت على الهويات، ولم تكن الهويات الحديثة بمنأى عن توازنات القوى بين الجماهير والسلطة، بما فيها الهوية المواطنية، لكن المجتمع الشبكي أحدث اختراقات عديدة لمفهومي السلطة والجمهور التقليديين ، حتى أن السلطة أصبحت تحتكم في بعض الأحيان إلى سلطة الجمهور في المجتمع الشبكي، كما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2020؛ حيث دار قسم كبير من الصراع بين المرشحين دونالد ترامب وجون بايدن في وسائل التواصل الاجتماعي، ما دفع أهم مراكز البحوث لدراسة آثار هذا الصراع من خلال تفاعل الجمهور، الذي أصبحت مواقفه في منصّات التواصل الاجتماعي بمثابة مؤشرات تنبغي قراءتها وتحليلها.

أتاح المجتمع الشبكي، حريات أوسع مما يحتويه الواقع التقليدي؛ إذ تغيب السلطة بمعناها المباشر، من دون أن يعني ذلك عدم حضورها بالمطلق، ما يجعل الذات في وضعية أكثر ارتياحاً للتعبير عن مكنوناتها من أفكار وتصورات ومواقف، لكن تعبيراتها أصبحت عرضة للتفاعل السريع معها سلباً أو إيجاباً، وهذه الخاصية التواصلية/التفاعلية تضع الهوية على المحك في كل لحظة، كما أنها تجعل من تصوّر الذات، أي ذات، بأنها تمتلك الحقيقة المطلقة أمراً مستحيلاً، فشروط التواصل غير المعلنة تجعل من النسبية جزءاً من معادلة التواصل.

لكن، سيكون من غير الدقيق، أو من قبيل التعميم غير المنهجي، أن نقول إن حضور مسائل الهوية ومشكلاتها هو ذاته في كل المجتمعات؛ إذ إنه على الرغم من وجود أوجه تشابه في طرق التواصل بين معظم البشر في المجتمع الشبكي، لكن أيضاً توجد الكثير من الاختلافات الجوهرية، والتي تحددها مستويات التطوّر التاريخي وتبايناتها من مجتمع إلى آخر، فعلى سبيل المثال تستهلك بعض المجتمعات الشبكية الناطقة باللغة العربية الكثير من الوقت والمساحة للتعبير عن الهويات التراثية والدينية على تنوعها، بينما تشهد المجتمعات الشبكية الناطقة باللغات الأوروبية الرئيسية تعبيرات تحضر فيها الهوية بصفتها الذاتية المدنية، بمحمولاتها وقضاياها الخاصّة والعامة.

الوضع الذي أوجده المجتمع الشبكي يضع السلطات التقليدية المسؤولة عن مرجعيات الهوية أمام تحديات جديدة، فمركزيتها أصبحت مهددة كما لم يحدث أبداً في التاريخ، كما أن الفعاليات التنويرية تمتلك اليوم فرصاً متزايدة لكتابة سرديات جديدة للهويات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"