عادي
صور مترعة بأساطير الذات عن الآخر

خرائط العصور الوسطى.. العقل سجين الجغرافيا

23:30 مساء
قراءة 5 دقائق
1701

محمد إسماعيل زاهر

تعتبر خريطة العالم في العصور الوسطى لتوماس كانتيلوب، أسقف هيرفورد، والمرسومة في عام 1300 تقريباً، أغرب خريطة معروفة في العالم، تستمد جمالياتها من دهشة تنتابنا إزاء رجل الدين هذا الذي حاول أن يصنع خريطة مطابقة لمعارف عصره اللاهوتية، والفلسفية والسياسية والتاريخية والحيوانية.

تقتصر خريطة كانتيلوب، المعروفة بخريطة هيرفورد، على آسيا وأوروبا وإفريقيا، ويتجه الشرق فيها نحو الأعلى، والقدس في قلب الخريطة، وتتعدد فيها رسومات لبشر وأشياء ومخلوقات مخيفة.

في القلب تتحول الخريطة إلى دليل شارح لجغرافية القدس، وفق الكتاب المقدس، وفي الأعلى من القدس تقع حديقة جنة عدن، ولحظة سقوط آدم وحواء، وتتطرق إلى قصة الخلق والموت والبعث، وفق الكتاب المقدس.

تسترسل الخريطة في رصدها للعالم جنوباً، فتمتلئ بصور لغابات وحيوانات في إفريقيا، ولأن إفريقيا جنوب الصحراء لم تكن معروفة آنذاك، فكان لابد أن تكثر الأساطير كلما اتجهنا جنوباً، فهناك شعوب بأربعة عيون، وشعوب تزحف، وبشر بأفواه مغلقة يتناولون الطعام والشراب عبر ماصة، وبشر بساق واحدة، وبشر مزدوجي الجنس، وبشر بلا أذنين.

لقد حاول رجل الدين احتواء العالم بأكمله في خريطة يبلغ ارتفاعها 1.59متر، وعرضها 1.34 متر، ويقول لنا جيري بروتون في كتاب «تاريخ العالم في 12 خريطة» أن كانتيلوب كان يعبر عن روح عصر؛ إذ توجد حوالي 1100 خريطة تعود إلى أوروبا القرون المظلمة تأخذ المنحى نفسه.

الخريطة في العصور الوسطى ليست مدونة تستقي فصولها وأصولها من الكتاب المقدس وحسب، لكنها مترعة بالمرويات المتناقلة من ألسنة البحارة وحكايات الرحالة، وأساطير الذات عن الآخر، ورغبة دفينة في كشف المجهول، والمخبوء في شمال العالم وجنوبه.

أسئلة فلسفية

في القرن السادس عشر، وبعد دخول الأمريكيتين إلى الخرائط العالمية، بدأت الأسئلة الفلسفية تفرض نفسها على راسمي الخرائط، أين كانت هذه الأرض، ومن يعيش فيها، ولماذا لم يرد ذكرها في الكتاب المقدس، أسئلة دارت في عقل جيرارد ميركاتور وهو يرسم خريطته للعالم، في عام 1569، والتي جاءت فيها أمريكا الشمالية أكبر من أوروبا وآسيا معاً، كان ميركاتور من أتباع مارتن لوثر، ورسم العديد من الخرائط الأخرى على شكل.

الخريطة في كتاب بروتون ليست مجرد كلمات وصور، أو مواد خام تصنع منها، أو بحث في المشاكل التي اعترضت طريق راسمي الخرائط، أو حتى رصد لتطور المعرفة بالأرض من مسطحة إلى كروية وما رافق ذلك من معارك فكرية طاحنة، الخريطة تختزن كل ذلك، وتتوسع لتعبر عن لحظات تسامح ولحظات ضيق أفق، و قصص بشر حقيقيين و مزيفين، يسعون وراء المعرفة، أو يلهثون وراء الثروات، يحدوهم شغف العلم أو لا يهمهم إلا السيطرة والهيمنة على كل سنتيمتر في الأرض، بشر متحضرون وآخرون برابرة، يتمترسون خلف أساطير الذات، أو يمتلكون رؤية منفتحة على الكون الشاسع، يعتقدون في العلم أو مهجوسين بالخرافات، الخريطة في كل هذه الحالات كانت ببساطة خيط رفيع لا مرئي بين العلم والخرافة حدود الآنا وأبعاد الآخر.

رفيقة الغزاة

رافقت الخريطة جميع الغزاة، يؤكد فيليب فيرنانديز-أرميستو في كتاب «المستكشفون.. التاريخ العالمي للاستكشاف»، أن أول خريطة إغريقية للعالم رسمت في عام 500 ق.م، استعداداً لشن الحرب ضد الفرس؛ بل إن الخريطة أكسبت الإنسان قدراً كبيراً من التأله؛ حيث صاحبت المستكشفين ومنحتهم قوة، في البداية وهبتهم الاتجاه إلى بقاع مجهولة؛ حيث كانوا كالآلهة التي هبطت على الأرض فجأة، حدث هذا مع حتشبسوت عندما وصلت إلى بلاد بونت، و الإسبان عندما حطوا على شواطئ الأمريكيتين، والقائد المكسيكي المسمى بمولود النار عندما وصل إلى حضارة المايا قبل الأوروبيين، في كل هذه الحالات كانت الشعوب المذهولة أو المصدومة تسأل: «هل يعيش أحد في الجانب الآخر؟».

ويورد أرميستو، شهادات عدة لحجاج مسيحيين في القرون الوسطى يصفون بها أهالي المناطق التي مروا بها باللصوص والمخادعين، ويدلي أحدهم بوجهة نظره في شعب الباسك قائلاً: «إنهم شعب قذر حقاً، في هندامهم ومأكلهم.. فإذا رأيتهم يأكلون اعتقدت بأنهم كلاب وخنازير، وإذا سمعتهم يتحدثون فسيبدون لك مثل كلاب تعوي.. إنهم جنس بربري لا مثيل له في عاداتهم ومخبرهم. وهم خبيثون حاقدون، لون بشرتهم وسيماهم تكشف عن شر محض.. هم متوحشون وهمجيون»

ويطرح أرميستو وغيره، معضلة الصين، فتلك الإمبراطورية التي كان بإمكانها أن تستكشف العالم الجديد، وتغير مسار التاريخ لم تفعل ذلك؛ بل يعتقد كثير من الباحثين بأن البحارة الصينيين وصلوا إلى الأرض الجديدة قبل الأوربيين، ففي الفترة الواقعة من 1405 إلى 1433 جاب الأدميرال الصيني المسلم جنغ خي محيطات العالم، وصلوا إلى الهند وإفريقيا وأوروبا و«الأمريكيتين»، كان الأسطول يتكون من اثنين وستين «بنكاً»، نوع ضخم من السفن، ومئتين وخمس وعشرين مركباً و سبعة وعشرين ألفاً وسبعمئة وثمانين رجلاً، كان الصينيون تجاراً، ولم يجدوا ما يستحق لدى الأمم الأخرى، باستثناء توابل الهند، وبعض الحيوانات الإفريقية الغريبة مثل الزرافة التي فرح بها الإمبراطور، الأسباب التي يطرحها البعض في انقطاع المشروع الصيني عن استكشاف واستعمار العالم عديدة، منها اكتفاء البلد بنفسه وثراؤه، وثقافة تنظر إلى الآخرين بفوقية، فضلاً عن الخوف من استنزاف الموارد في البحر في ظل صعود تيمور لنك.

تسببت صدمة لقاء الخرائط ببعضها البعض في قوس معرفي واسع سينشأ في ما بعد ويسبب صراعات ثقافية وحضارية لا نهاية لها: شرق-غرب، شمال- جنوب، استشراق- كولونيالية، كوزموبوليتانية- مابعد الكولونيالية، الذات-الأخر، الأصالة- الحداثة، التراث- العصر.. منظومة لا أول لها من آخر.

وسيستمر البشر وحتى القرن الحادي والعشرين محاصرين بأسئلة لماذا تفوق الصينيون القدامى في الجبر والحساب دون الهندسة التي برع فيها الإغريق؟ ولماذا من العسير على أبناء الشرق الأوسط فصل الموضوع عن السياق المحيط به؟ ولماذا يتعلم الأطفال في الغرب الأسماء أسرع من الأفعال، بينما أطفال شرق آسيا يتعلمون الأفعال بأسرع من الأسماء؟ هذه الأسئلة وغيرها يطرحها ريتشارد إي نيسبت في كتاب «جغرافية الفكر»، فالعقل وفق هذه الرؤية وغيرها المئات يخضع للتوزيع الجغرافي، والأعراق والسلالات والأثنيات والعوامل الاجتماعية والمناخ.

البحث عن إجابة

«هل يعيش أحد على الجانب الآخر؟»، ليس سؤالاً برسم النخب، ولا يجب أن نبحث عن إجاباته في كتب التاريخ وحسب، لكنه متعلق بتلك الهجرات والرحلات وبمن سافروا للعمل، وعاشوا وفق خرائطهم الأصلية، أي أنهم عرفوا الجانب الآخر، لكنهم احتفظوا بهوياتهم الأصلية، يلفت أرميستو، انتباهنا إلى أسماء أول مستعمرات أسسها الأوربيون في الأرض الجديدة: «نيو إنغلاند»، «نيو فرانس»، «نيو ساوث ويلز»..الخ.

اللافت إلى الانتباه أن المكان الجديد الذي يؤسسه المهاجر أو الغازي، لا يقتصر على روائح الطعام التي تزكم أنوفنا عندما ندخله، أو أزياء وطنية نشاهدها هنا أو هناك، أو مسجد أو كنيسة أو معبد يحلو لنا إلقاء نظرة عليه خلال التجول، أو عادات وتقاليد تظهر لنا ونحن نتعامل مع البشر في تلك الأحياء، لكن إحداثيات المكان نفسه مستنسخة من المكان السابق: أثاث المنزل، معمار البيت وتقسيمه، شكل الشوارع، فالقلب يحمل خرائطه معه أينما ذهب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"