الفخر بالجهل

00:25 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

قيل قديماً «إذا بليتم فاستتروا»، لكن الدنيا تغيرت وأصبح «الستر» في ظل انتشار وسائل التواصل المتطورة وتشابك البشر عبر الإنترنت من على هواتفهم المحمولة في أيديهم طوال الوقت، أمراً بعيد المنال. وبدلاً من أن يؤدي ذلك إلى بذل البشر مزيداً من الجهد للمعرفة والتعلم لتفادي افتضاح جهلهم، جاء رد الفعل عكسياً: التفاخر بالجهل.

أسهم في ذلك بشكل رئيسي بروز جماعات جديدة تتكسب من «التفاهة» والسطحية ممن يسمون «مشاهير مواقع التواصل» تستخدمهم شركات الدعاية والإعلان للترويج، وأطلقوا عليهم وصفاً إيجابياً هو «مؤثرون». والحقيقة أن هؤلاء مؤثرون فعلاً في الملايين من الأجيال الجديدة، بدءاً من جيل الألفية وما تلاه.

صحيح أن هناك من بين هؤلاء من يقدم ما يستحق المتابعة، لكنهم قلة قياساً على الكثير مما هو سطحي وأحياناً مضلل وتلفيقي لمجرد الإثارة والانتشار. بالطبع هذا تيار لا يمكن وقفه، وحتى محاولات تنظيمه ليست سهلة، وإن كانت بعض الدول تبذل مساعي في هذا السياق.

النتيجة الجانبية لما أصبحنا عليه في العالم الآن، هي ضرورة الاهتمام أكثر بالتعليم، وتحتاج البشرية فعلاً إلى «ثورة» في المناهج التعليمية وطريقة تربية النشء، كما أن على الإعلام التقليدي مهمة في غاية الصعوبة، وعليه أن يطور نفسه للتصدي لها إذا كان له أن يستمر.

ثم جاء زمان أفسدت فيه السياسة الاهتمام بالعلم والمعرفة. فكثير من السياسيين حول العالم في العقود الأخيرة أصبحت تأخذهم «العزة بالإثم» حتى إنهم لا يعترفون بخطأ ولا يعتذرون عن شيء اقترفوه ولو كان جنوحاً فجاً.

صحيح أنه ما زالت هناك قلة من السياسيين الذين يمكن وصفهم بأنهم «حكماء» يعلون من قدر المعرفة ويتواضعون إذا لم يوفقوا في قرار، لكن الأغلبية للأسف أسهمت في حالة الفخر بالجهل التي أصبحت سمة بين البشر الآن. وبما أن السياسيين يقعون في فئة المشاهير، ربما ليس مثل لاعبي كرة القدم والفنانين، فإن سلكوهم يطبع الملايين خاصة من الصغار والشباب.

وحين يشاهد الملايين فناناً مشهوراً يفاخر بأنه لا يعرف لغته العربية جيداً، وبالتالي لا يشارك في الأعمال التاريخية التي تتطلب حواراً بالعربية الفصحى، هل نتوقع أن يهتم النشء بلغته العربية مثلاً وهو يرى أن هذا الفنان حقق من الشهرة والثراء الكثير وهو لا يعرف النطق بكلمة عربية فصحى؟ بل إن التفاخر بالجهل وصل أحياناً إلى من عليهم مسؤولية توعية الجماهير.

إنما اللغة فقط مثال، لأنها أداة العلم والمعرفة، لكن التفاخر بالجهل وعنجهية عدم المعرفة أصبح سمة سائدة لدى الأغلب الأعم خاصة من الأجيال الجديدة. لا يعني ذلك أن كثيرين ما زالوا، وحتى من الصغار والشباب، يسعون للعلم والمعرفة ويتفوقون ربما على من يفترض أن يعلموهم. المشكلة أن مساحة السطحية تزيد ولا يواكب ذلك مزيد من الاستثمار في العلم وبذل مزيد من الجهد لتطبيق التكنولوجيا لخدمة العلم والمعرفة، بدلاً من أن تكون وسيلة لنشر التضليل والتفاهة.

يتطلب ذلك تركيز دول العالم، بما فيها منطقتنا، على التعليم والإعلام والفنون بكافة أنواعها. هناك دول بدأت بالفعل تطوير مناهج التعليم لديها واستوعبت تطورات التكنولوجيا كوسيلة لزيادة المعرفة، لكن دولاً كثيرة بحاجة ليس فقط لتغيير المناهج التعليمية، وإنما أيضاً تغيير أسلوب التعليم بما يلبي متطلبات العصر ويواكب سبل تأهيل الأجيال الناشئة. فمن الصعب الآن، في ظل الوفرة المعلوماتية الهائلة وسهولة الوصول إليها، أن يظل التدريس للطلاب بالطريقة ذاتها التي تعلم بها جيلي وحتى الأجيال التالية له.

لا تكتمل رسالة التعليم وتطويره بدون تطوير الإعلام والفنون وتشجيعها والاستثمار فيها. فالفنون بكافة أشكالها مكون أساسي في تشكيل ثقافة الناس. وفي ظل التغيرات الجذرية التي يشهدها العالم والتطور الرقمي السريع والهائل تحتاج الفنون إلى دعم وتشجيع الحكومات وعدم تركها تماماً لنموذج الأعمال التجارية. وليكن الاستثمار في الفنون مكملاً للاستثمار في التعليم باعتباره استثماراً في البشر. فالبشر هم الأساس في أي استراتيجية تنمية مستدامة والاستثمار فيهم أولوية مقدمة على غيرها. وليس أهم من تنمية معرفتهم وتزويدهم بسلاح العلم في مواجهة الجهل والتضليل والسطحية. أما الإعلام فله حديث آخر لا تتسع له مساحة هذه السطور.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"