حول مئوية الدبلوماسية المصرية

00:25 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. مصطفى الفقي

صدر تصريح 28 فبراير/شياط 1922 بمنح مصر الاستقلال - ولو كان شكلياً بحكم بقاء الاحتلال - وكان ذلك من نتائج الثورة الشعبية التي اندلعت عام 1919 ورفعت شعار مصر للمصريين، وأفرزت مظاهر جديدة للوحدة الوطنية ووضعت مصر في أجواء ليبرالية امتدت لثلاثة عقود، ورأت بريطانيا العظمى حينها أنه قد آن الأوان لينال المصريون بعض الميزات الشكلية للاستقلال الوطني، فجاء تصريح 28 فبراير/شباط ليكون علامة فارقة في الوضع الدستوري للبلاد والذي بمقتضاه أصبح السلطان أحمد فؤاد الأول ملكاً على مصر.

 تحولت الدولة بعدها من سلطنة إلى مملكة، وجرت تعديلات شاملة في الأجهزة الإدارية والمواقع السياسية، وأصبح من حق مصر في ذلك الوقت أن تكون لها بعثات دبلوماسية مستقلة معترفاً بها دولياً في عدد من العواصم الكبرى الموجودة حينذاك، فافتتحت مصر بعض المفوضيات، وعدداً آخر من القنصليات، وبرزت أسماء الشباب الدبلوماسي من أمثال محمود فوزي ومحمد عوض القوني وأحمد فراج طايع وغيرهم ممن أصبحوا فيما بعد سفراء لامعين ووزراء مرموقين، وبذلك خلقت أجواء 1919 مناخاً جديداً تمتعت فيه مصر بنوع من الاستقلال الاسمي، الذي عززته نسبياً معاهدة 1936.

 ونحن هنا نفرق بين عدة مراحل في الفترة الواقعة ما بين 1922 و1936 التي انتهت بتوقيع الاتفاقية المصرية البريطانية ورحيل الملك فؤاد وخلافة فاروق الأول له على العرش، لكي نكتشف فيها تنامي الوعي الوطني خصوصاً بعد أن فتح دستور 1923 الباب على مصراعيه للحريات المدنية والسياسية وخلق بيئة للعمل الوطني في كافة الاتجاهات، كان أبرز رموزها سعد زغلول ومصطفى النحاس في السياسة وسيد درويش ومحمود مختار في الفن موسيقياً أو تشكيلياً.

 كما ازدهر الأدب وترسخت مظاهر التأثير السياسي في الحياة التعليمية وتظاهرات الطلاب، ثم تأتي الفترة الثانية من 1936 إلى 1952 وهي التي شهدت تنامي دور جماعة «الإخوان» المسلمين واقتحامها ميدان العمل السياسي وشيوع محاولات الاغتيال مع التذمر الكامن بين ضباط الجيش المصري خصوصاً أثناء حرب فلسطين 1948 وما بعدها، مع ظهور تنظيمات تأثرت بالنظم الفاشية قبيل الحرب العالمية الثانية، ونتذكر هنا حدثاً مهماً أدى إلى جفوة بين القصر الملكي وقصر الدوبارة مقر المندوب السامي البريطاني وأعني به حادث 4 فبراير/شباط 1942 وفرض حكومة من حزب الأغلبية برئاسة النحاس باشا لا حباً في الديمقراطية، لكن حفاظاً على استقرار البلاد في وقت لم تكن كفة الحلفاء قد رجحت في ميادين القتال، وكان الخطر يتهدد الوجود الإنجليزي في مصر على نحو غير مسبوق، وقادت مجموعة يمثلها علي ماهر وعزيز المصري توجهاً متعاطفاً مع دول المحور ومعادياً للوجود البريطاني في مصر. 

وفي تلك الفترة أيضاً بدأت تفوح رائحة فساد الملك فاروق وانتشرت المنشورات السرية داخل الجيش وخارجه، وعاد الضباط الأحرار من حرب فلسطين الأولى، وهم يزمعون شيئاً استقر رأيهم عليه وهو أن تحرير فلسطين يبدأ بتحرير مصر أولاً، ونشطت الدبلوماسية المصرية مرة أخرى لتتصدر المشهد وبرز اسم الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية الوفد لكي يكون رمزاً للدبلوماسية الوطنية الجديدة التي تشكلت في إطارها المنظومة الكاملة للدبلوماسية المصرية بعد ذلك.

أنتجت الدبلوماسية الوطنية أسماء معروفة مثل أحمد فراج طايع أول وزير خارجية بعد ثورة يوليو 1952 والذي استدعي، وكان قنصلاً لمصر في تريستا بإيطاليا، بينما عمل محمود فوزي مع الوفد الدائم بالأمم المتحدة ثم سفيراً في لندن خصوصاً أن الدبلوماسية المصرية كانت شريكاً فاعلاً للأعمال التحضيرية التي مهدت لقيام الأمم المتحدة بعد عصبة الأمم، وهي الفترة التمهيدية التي برز من أبنائها بعد ذلك أجيال من الدبلوماسيين من أمثال محمود رياض وأحمد عصمت عبد المجيد وأشرف غربال وإسماعيل فهمي وصولاً لأجيال عبد الرؤوف الريدي وعمرو موسى ونبيل العربي وأحمد ماهر السيد وغيرهم ممن تفاعلوا مع نظم الحكم في فترات متعاقبة وكانوا تعبيراً مشرقاً عن وجه مصر بعد ثورة يوليو 1952. 

وعلى الرغم من أنني لست من أشد المتحمسين لدور الدكتور محمود فوزي؛ إذ أراه سلبياً في معظمه؛ حيث كانت لدى ذلك الدبلوماسي المحنك الفرصة لأن يوجه الضباط الشباب من رجال الثورة في اتجاهات قد تكون أفضل مما جرى، لكنه آثر السلامة وطوى رؤيته الحقيقية بغلالات من الهدوء الشديد والأدب الراقي.

 وعلى الرغم من ذلك فنحن لا نغمط الرجل حقه؛ بل نراه بالتأكيد واحداً من رواد الدبلوماسية المصرية الحديثة، ولفت نظري، إلى أن ذلك الدبلوماسي المخضرم قد شغل منصب وزير الخارجية ونائب رئيس الوزراء ثم رئيس الوزراء في أول حكومة للرئيس الراحل أنور السادات، ثم أصبح مساعداً لرئيس الجمهورية.

 ولابد أن نشير هنا إلى أن د. محمد صلاح الدين يمثل مدرسة دبلوماسية وطنية من طراز رفيع، وأن إسماعيل فهمي شخصية بارزة في تاريخ الدبلوماسية المصرية؛ حيث كان معروفاً بشجاعة الرأي والقدرة على اتخاذ القرار، الذي يؤمن به في كل الظروف. هذه صفحات مشرقة من تاريخ الدبلوماسية المصرية في عيدها المئوي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"