خيارات روسيا الاقتصادية قبالة العقوبات الغربية

22:20 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد*

بعض الخبراء الاقتصاديين الأمريكيين يقولون بأن العقوبات الغربية ضد روسيا، مليئة بالثقوب. وإذا استعصى النفاذ من واحد أو أكثر من هذه الثقوب، فإن لروسيا باباً خلفياً كبيراً يمكنها من خلاله تبادل الأموال والبضائع مع بقية العالم. إنها الصين بطبيعة الحال. وسيكون هناك دائماً مصدر ثالث سوف تسلكه الشركات الغربية (وحتى الحكومات الغربية) المستعدة دائماً لعمل كل ما من شأنه عدم انقطاع مشترياتها من السلع الأساسية الروسية. فالعلاقات الاقتصادية الدولية هي أقوى من نزعات الأفراد.

فيما يتعلق بإخراج روسيا من نظام المدفوعات الدولي (SWIFT)، فبعد أخذ ورد، قررت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون عدم اللجوء إلى هذا الخيار، واكتفوا باستبعاد 7 مصارف روسية من نظام سويفت من بينها بنك «في تي بي» ثاني أكبر المصارف الروسية، لكنهم اضطُروا للإبقاء على مؤسستين ماليتين كبيرتين، إحداهما مصرف «سبيربنك» أكبر مصرف في روسيا وأوروبا الشرقية والوسطى، نظراً لارتباط هاتين المؤسستين الماليتين الروسيتين بقطاع النفط والغاز الروسي الذي يتهيب الغرب، حتى الآن على الأقل، من إدراجه ضمن حزمة عقوباته. ونظام سويفت (مقره بلجيكا)، الذي يضم في عضويته 11507 مصارف (حتى نهاية شهر مارس 2020)، موزعين على أكثر من 200 دولة حول العالم، هو الوسيلة التي تقوم من خلالها البنوك الأمريكية والحكومة الأمريكية بمراقبة المعاملات المالية العالمية بين البنوك لتحديد الدولة أو الأعمال التجارية التي لا تطبق العقوبات الأمريكية ضد الدول.

هذه خطوة نوعية جديدة في تاريخ العقوبات على روسيا، ومحفوفة بالمخاطر أيضاً. ويمكن أن تأتي بنتائج عكسية، من حيث تركها تأثيرات اقتصادية خطيرة على أسواق التجارة في السلع والخدمات، في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والعالم، لعل أبرزها ارتفاع حاد في التضخم على مستوى العالم. ويمكن توقع ردود فعل روسيا على هذه الخطوة. إذ يمكنها ببساطة استخدام عملة اليوان الصيني في معاملاتها. أو يمكن أن تنضم إلى الصين وآخرين لإنشاء نظام مدفوعات دولي موازٍ يتجاوز نظام سويفت. وهذا اقتراح مطروح على أية حال منذ عام 2012 عندما تطرفت الولايات المتحدة في استخدام سلاح العقوبات لحصد المكاسب. ويمكن لروسيا أيضاً الانضمام إلى الصين في استخدام العملة الرقمية، حيث إن الصين في طريقها بالفعل إلى اعتماد العملة الرقمية في معاملاتها الدولية.

وإلى جانب إعفاء النفط والغاز الروسي من العقوبات بناءً على ضغط شركات النفط الأمريكية على الرئيس بايدن، فإنه تم استبعاد الألمنيوم الروسي من العقوبات تحت ضغط الرؤساء التنفيذيين لصناعة السيارات وصناعة التعليب وشركة بوينج الذين يعتمدون على واردات الألمنيوم الخام الروسية إلى الولايات المتحدة بما لا يقل عن 10%، إضافة إلى اعتماد أوروبا بشكل أكبر على واردات الألمنيوم الروسية. وتتوقع أوساط الصناعة الأمريكية القائمة على المعادن، أن يقوم مستوردو هذه السلع الأساسية من روسيا، بالضغط للحصول بهدوء على إعفاءات مماثلة.

أما في ما يتعلق بمنع البنوك الروسية والمستثمرين الروس من الوصول إلى الأسواق المالية الغربية، فسيكون له تأثير كبير في الاقتصاد الروسي، لأن الشركات والحكومة الروسية كانت في الغالب تلجأ إلى أسواق المال الغربية، لاسيما سوق لندن المالي، لطرح سندات الشركات والحكومة الروسية للبيع فيها. وقد تم تصميم العقوبات المصرفية لقطع هذا المصدر. لكن يمكن للبنك المركزي الروسي أن يتدخل هنا ويمتص (يشتري) ديون الشركات والحكومة على حد سواء باعتباره «مشتر الملاذ الأخير» (Buyer of last resort) في الأزمة، تماماً كما يفعل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والبنوك المركزية الأخرى في الغرب. يُذكر أن روسيا راكمت للطوارئ في خزينتها في السنوات الأخيرة ما يوازي 643 مليار دولار من الذهب والعملات الأجنبية الصعبة (تم التخلص بصورة كبيرة من الدولار الأمريكي بحيث انخفضت حصته في الاحتياطيات الروسية من 46% في عام 2017 إلى حوالي 10% حالياً)، تحسباً للخروج من الاعتماد الأمريكي والغربي على الدولار الأمريكي والنظام المصرفي. هذا الخزان النقدي، بالعملات السائلة والذهب، متاح لتعويض العقوبات الغربية على نظامها المصرفي والمالي. ويمكن استخدام هذه الاحتياطيات أيضاً لدعم الخسائر المؤقتة التي تكبدها المستثمرون الروس من العقوبات الأمريكية المفروضة على رجال الأعمال الروس. لكن لهذه العقوبات الأمريكية اتجاه آخر معاكس، إذ تستطيع روسيا بدورها تجميد أصول المستثمرين الأجانب في البنوك الروسية. وهناك الكثير من ودائع المستثمرين الغربيين في البنوك الروسية الخمسة الكبرى التي تخدم الصناعات الروسية العملاقة المنتجة للنفط والغاز.

أما بالنسبة للعواقب غير المرئية للعقوبات الغربية، فقد تكون أكثر حدة وراديكالية مما هو مرئي منها. فقد فتّح الغربيون، بعقوباتهم الشاملة وغير المسبوقة، أعين حتى أولئك الساهدين في ملكوتهم الاستثماري، على عواقب الاعتماد على نظام دفع يمكنهم أن يتحولوا فيه فجأة وعلى حين غرة من مرتهنين له حالياً إلى ضحايا آخرين جدد. كذلك الحال بالنسبة للاعتماد على العملة الأمريكية التي صارت تتوفر على إشكالات عديدة. هنا لربما سمحنا لأنفسنا بالتنبؤ بصعود دور العملات المشفرة كأدوات دفع في العلاقات النقدية العالمية، لاسيما بين روسيا وشركائها التجاريين في العالم، على حساب الدولار الأمريكي.

جديرٌ بالذكر أن روسيا تعد دائناً صافياً في الأسواق الدولية؛ فقيمة أصولها الأجنبية تتجاوز قيمة التزاماتها الأجنبية. إذ بلغ إجمالي أصولها الأجنبية في نهاية سبتمبر 2021، 1.62 تريليون دولار مقابل 1.18 تريليون دولار في الخصوم الأجنبية، ما رفع فائض الحساب الجاري في عام 2021 إلى 120 مليار دولار، أي أكثر من 7% من الناتج المحلي الإجمالي.

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"