أسواق المال كمؤشرات على اقتصاد فاعل

23:00 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد الصياد*

أسواق الأوراق المالية لها وقع السحر على كافة وسائط الميديا الكبرى العالمية السائدة، لدرجة أنها، لأسباب لا علاقة لها بالأساسيات الاقتصادية “Economic fundamentals”، تتخذ من أدائها مقياساً للأرباح التي ستحققها الشركات في المستقبل، وتحقق بواسطتها الرفاهية الاقتصادية. ووصل الهوس بالإعلام الاقتصادي وغير الاقتصادي إلى حد جعل التداولات اليومية في بورصات الأوراق المالية بنداً رئيسياً في تغطياتها لأنباء الاقتصاد العالمي، من خلال الاستعراض اليومي لما تحققه مؤشرات القياس الرئيسية لأداء هذه البورصات، مثل «داو جونز» و«ستاندرد آند بورز 500» وغيرهما. فتعتبر أي حركة صعودية مهما كانت ضآلتها وفرصة محافظتها على اتجاهها أنباءً جيدة، والحركة الهبوطية بمعزل عن ملابساتها أخباراً سيئة.

الهوس بأداء البورصات كمؤشرات قياس اقتصادية لا يقتصر على وسائل الإعلام غير المتخصصة، وإنما يشمل الأكاديميين أيضاً. كثيرون توقعوا تعرّض مؤشرات البورصات الأمريكية لخسائر كبرى إذا ما فاز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر 2016. أحد هؤلاء كان جاستن جيمس مايكل الاقتصادي الأسترالي وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في كلية جيرالد ر. فورد للسياسة العامة في جامعة ميشيغان، وزميل معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، الذي كتب في الفترة التي سبقت الانتخابات، العديد من المقالات في صحيفة «نيويورك تايمز» جادل فيها بأن المستثمرين الحكماء في سوق الأوراق المالية أدركوا أن مجيء ترامب للسلطة سيشكل أخباراً سيئة للبلاد، مستنداً إلى الانخفاضات الحادة في البورصة تحسباً لاحتمال فوز ترامب. لكن فرضيته سقطت في امتحان مهين في الأسابيع والأشهر التي أعقبت انتخاب ترامب، إذ ارتفع مؤشر «ستاندرد آند بورز 500» بأكثر من 5% في الشهر الأول بعد فوز ترامب. واستمرت مؤشرات البورصات الأمريكية في الارتفاع طوال عام 2017، لتبلغ ذروتها في يناير من عام 2018. وقد كانت أعلى بأكثر من الثلث من قيمتها عشية الانتخابات. وعندما تراجعت السوق في 2019 انبرى أولئك لاستغلال الانخفاض وتوجيه سهام النقد للرئيس ترامب، واعتبروا الانخفاض دليلاً على إخفاقات ترامب الاقتصادية.

لذا تبدو وجهة النظر التي تعتبر سوق الأوراق المالية مقياساً للرفاهية الاقتصادية مثيرة للدهشة والاستغراب، لأنها تتعارض تماماً مع ماهية سوق الأوراق المالية، التي لا تعدو أن تكون مقياساً لتوقعات الأرباح المستقبلية للشركات المدرجة في البورصة. هذا هو التعريف المتعارف عليه لهذه الأسواق. بهذا المعنى تكون البورصات مقطوعة الصلة بالاقتصاد الحقيقي “Real economy”، ويكون هوس الميديا السائدة وبعض أوساط الأكاديميا، بأداء البورصات كمؤشر على عافية الاقتصاد من عدمها، لا يستقيم مع حقيقة عدم ارتفاع سوق الأسهم حين يحصل الناس على رعاية صحية أفضل ويعيشون حياة أطول، كما لن ترتفع مؤشراتها حين يحصل العاملون على ساعات عمل أسبوعية أقصر وعلى إجازات أطول ومدفوعة الأجر، وغيرها من مؤشرات الرفاه الاجتماعي التي ما كانت لتتحسن لو لم يكن الاقتصاد يؤدي بشكل جيد.

في بعض فترات خمسينات وستينات القرن الماضي، عندما كان الاقتصاد الأمريكي يؤدي بشكل قوي لصالح قاعدة اجتماعية أوسع بكثير مما هو حادث اليوم، كانت أسعار الأسهم أقل بكثير من نسبة نمو الاقتصاد. والسبب هو أن أساسيات الاقتصاد كانت لا تزال تشكل معياراً وحيداً تقريباً لمعرفة كيف يؤدي الاقتصاد، كمياً ونوعياً. فقد كان الاقتصاد الحقيقي “Real economy” القائم على الإنتاج الصناعي الأساس الذي يُبنى عليه، وكان الاقتصاد الورقي (أسواق المال) يشكل السقف فقط، قبل أن تنقلب الأمور ويصبح الاقتصاد الورقي هو القائد للاقتصاد، ليس في أمريكا فقط وإنما في معظم الرأسماليات الغربية المتقدمة. فأداء البورصات الأمريكية يؤثر بشكل مباشر على أداء البورصات الأوروبية والآسيوية، لأن أكبر الشركات العالمية تدرج أسهمها على قوائم تداولها. والسياسيون الأمريكيون من الحزب الديمقراطي مثلاً يحرصون على اختيار مواضيع «محايدة» ومناسبة جداً لسلاسة تحركاتهم في أروقة السلطتين التنفيذية والتشريعية، من قبيل موضوع «تغير المناخ»، على سبيل المثال، الذي يجذب الشباب الأمريكي، وفي نفس الوقت لا يؤثر سلباً على أسهم شركات الوقود الأحفوري، من حيث انخفاض الطلب على النفط والغاز والفحم، وانخفاض أرباح الشركات المنتجة لهذا الوقود، وبالتالي أسهمها في البورصة. وهذا ينطبق أيضاً على شركات التأمين والشركات الدوائية التي يطلق بعض أعضاء السلطتين تصريحات حول وجوب تصويب عملها، وكذلك شركات التكنولوجيا التي طالبت مرشحة رئاسة أمريكية (اليزابيث وارن) بتجزئة الشركات المهيمنة على هذا القطاع مثل «غوغل» و«ميتا» (فيسبوك سابقاً).

لذا فإن الرأي الزاعم بأن سرعة نمو وانطلاق الاقتصاد لا يستقيمان مع سوق أسهم أخفض كثيراً من الاقتصاد لا يتعارض مع الأساسيات الاقتصادية فحسب، بل يتعارض أيضاً مع الوقائع الاقتصادية التاريخية. وحتى لو انقلبت الموازين بتدخلات فظة في التلاعب بالأساسيات الاقتصادية، فالحقيقة تبقى أن أسواق الأسهم ليست أفضل المؤشرات لاقتصاد فعال. فهي، في نهاية المطاف، كازينوهات مصممة لعرض أوهام ربحية مستقبلية. ولو أن البورصات هي فعلاً مقياس لمدى صحة الاقتصاد من عدمها لكان وضع اقتصادات بعض الدول النامية التي لديها بورصات بالاسم والشكل فقط لا تكاد قيمة تداولاتها اليومية تذكر في خبر كان. هل هذا يعني تجاهل مؤشرات سوق الأوراق المالية والتركيز على الصناعات والأنشطة الإنتاجية الحقيقية؟ كلا بطبيعة الحال، فالبيت لا بد من تسقيفه بعد وضع أساساته وأعمدته. فمن دون وجود سوق استثمارية كبيرة في الصين، كوعاء لخلق الأموال، على سبيل المثال، ما كان للابتكار في القطاع الخاص أن يحدث.

* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3wu2daar

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"