عادي

الهنوف محمد.. الشعر صوت البراءة

23:27 مساء
قراءة 4 دقائق
الهنوف محمد

علاء الدين محمود

في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.

«أؤمن بالشعر إيماناً يتجاوز الصنعة الأدبية، نحو مرتبة من العرفان»، هذا الحديث للشاعرة والكاتبة الإماراتية الهنوف محمد، يحمل العديد من الدلالات الأدبية والمعرفية، ويحيلنا في الوقت ذاته إلى نصوصها التي تحمل تجربة روحية تعطر قصائدها بألق خاص فريد وشفيف، ويبدو ذلك واضحاً منذ ديوانها الشعري الأول الذي حمل اسم «سماوات»، وصدر منذ وقت مبكر خلال دراستها في «جامعة الإمارات»، وكان بداية حقيقية لها في مسيرة الشعر، فالديوان يحمل نصوصاً غلب عليها الجانب التأملي، ويتناول مواضيع مثل البحث عن الذات والأسئلة الكونية بمزاج أصحاب التجارب الروحية، غير أن بداية الهنوف مع القصيدة كانت سابقة للمرحلة الجامعية، حيث كتبت الشعر في سنوات مبكرة من حياتها عندما كانت تبلغ 11 سنة، وحينها لم تكن تعرف ما إذا كان ما تكتبه يمكن أن يسمى قصيدة أم لا، وذلك يشير إلى موهبة فطرية وأصيلة.

البقاء للشعر

تنحاز الهنوف للشعر وتعتقد أنه كائن خفي يسكن الناس جميعاً، فهي تصر على أنه حتى لو خفَت بريقه، فإنه يبقى في الصدارة، فهو كالظل كامن لا نشعر بوجوده إلا في حالات معينة، والدليل على ذلك أن الأجناس الأدبية كالرواية والقصة لا تحقق إبداعاً وتميزاً، إذا لم تمتلك درجة شعرية معينة، فنجاح الأدب مقترن بقدر من الشعر يسري في النص الإبداعي، سواء كان سرداً أو خاطرة أو حتى على مستوى مؤلفات السيرة الذاتية، لذلك فإن الهنوف دائماً ما تشير إلى أن البعض قد تعجل في الحكم على موت الشعر، لمصلحة أجناس أخرى. فالشعر موجود على الرغم من ظهور فنون أدبية جديدة.

وقد أثرت كثير من العوامل تجربة الهنوف، أهمها الشعراء الكبار في العالم العربي، فقد تأثرت في وقت مبكر بالقصائد التي كان يتغنّى بها الفنان البحريني خالد الشيخ، وكانت لشعراء عرب كبار، خاصة نزار قباني، كما أنها تأثرت بأعمال بدر شاكر السياب، ودائماً ما تشير الهنوف إلى أنها تحتفي بالنص بغض النظر عن الشاعر الذي كتبه؛ لذلك فإن مجموعة من القصائد هي التي شكلت وجدانها وأسهمت في تغذية تجربتها الشعرية، فما يشدها إلى الشعر هو ذلك النوع من القصائد ذات المواضيع الحافلة بالتأمل الإنساني والعامرة بالتجارب الروحية، لذلك أحبت كثيراً عوالم ابن عربي والحلاج وغيرهما من شعراء التصوف الذين يحملون في نصوصهم سمات إنسانية ووجدانية وفكرية.

تحضر في أشعار الهنوف ونصوصها الكثير من العوالم والمواضيع المختلفة، فقد تناولت البيئة الإماراتية المحلية، حيث كان أثر المكان كبيراً ويحتل مساحات شاسعة من نصوصها، فهي دائماً ما تتغنى بالبحر والصحراء وغير ذلك من مفردات البيئة التي شكلت وجدانها وذائقتها، كما نجد أن نصوصها تعكس العاطفة الجياشة تجاه المهمشين والفقراء والمعدمين، كما أنها تحمل محبة خاصة للأطفال، وذلك يبدو جلياً في كثير من أعمالها التي تتدفق عاطفة وتعبر عن وجدان جميل وروح شفيفة.

الحداثة

منذ البدء اختارت الهنوف شعر الحداثة، حيث توجهت نحو قصيدة النثر، وذلك لأنها انكبت على قراءة تجارب مبدعي ذلك النمط الشعري، خاصة خلال المرحلة الجامعية، فأحبت النثر؛ إذ وجدت فيه نصاً مغايراً منطلقاً ومتمرداً على القيود، ويتمتع بألق وروح حداثية، ويعبر عن التجارب الإنسانية بصورة مختلفة، ولا يحفل بالأطر التقليدية، كما أنه يتوفر على كثير من المتعة التي لا توجد في الأنماط والقوالب الشعرية الأخرى، ولعل ذلك الولع بقصيدة النثر هو ما جعل الهنوف تقول: «كان اختياري لقصيدة النثر بمثابة تمرد على ما هو سائد، فأنا ضد الإبداع الرسمي والعادي والمطروق والمألوف. فنص النثر ينقل الشاعر من فضاء إلى آخر بكل حرية». وترى الهنوف أن قصيدة النثر المعاصرة، تتفوق في أحيان كثيرة عند بعض الشعراء، بلغتها الشعرية الموحية؛ إذ إن الأصل في القصيدة أن تكون ذات بنية محكمة وقادرة على جذب الجمهور.

صدى

وجدت تجربتها الشعرية صدى كبيراً، وقال عنها الناقد العراقي ناظم ناصر القريشي: «تمتلك الهنوف محمد وعياً استثنائياً لذاتها، وللغتها الشعرية التي تمارس من خلالها هذا الوعي من الناحية الفكرية والجمالية بنص صوفي يشعرنا بالروحانية والقداسة، وهذا الجانب الأكثر روعة في نتاجها الأدبي، كما أن صوتها الصديق القديم للبراءة يتجاوز أوهام اللغة، وينمو كشجرة محملة بالحكمة من خلف الجدران، يحمل إرادتها لبلوغ ضوء الشمس، ليصل سليماً إلى سمع الجمهور، فتتردد أصداؤه في أرجاء النفس القريبة والبعيدة».

لا ينحصر نشاط الهنوف الإبداعي في الشعر فقط، حيث إنها صاحبة إسهامات في مجالات عدة، فهي تنشط في المشهد المسرحي وتعمل كأمين عام لمسرح دبي الوطني العريق، وعملت على دعم الشباب الموهوبين لرفد الساحة بهم، من خلال الورش والمحاضرات والأنشطة المتعلقة بالمسرح وفنونه ومجالاته: الإخراج المسرحي، وكتابة نصوصه، وفنون الأداء والديكور والإضاءة، وكذلك طرقت الهنوف دروب إبداعية أخرى. فقد كانت الشاعرة الإماراتية الأولى التي اختارتها مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، في عام 2015 ضمن مبادرة «برنامج دبي الدولي للكتابة» عن فئة «تبادل الكتّاب»، حيث سافرت إلى اليابان وعاشت تجربة جديدة ومغايرة تعرفت من خلالها في اليابان إلى أشكال جديدة في الأدب، وتمكّنت من رصد حياة الشعب الياباني، وذلك الأمر مكّنها من الكتابة في جنس أدبي جديد وهو أدب الرحلات، حيث أصدرت كتاباً حمل عنوان «الطريق إلى اليابان»، لكنها في ذلك الكتاب لم تتخل عن أسلوبيتها الشعرية التي سرت داخل السرد في ذلك العمل الذي يرصد هذه المعايشة بأسلوب سردي.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"