العرب في ظروف متغيرة

00:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

جميل مطر

اتصلت، قبل سنتين أو أكثر، بالصديق عليّ الدين هلال، أعرض عليه فكرة تأليف كتاب جديد عن العالم العربي بعد مضي نحو أربعين عاماً على نشر الطبعة الأولى من كتابنا المشترك الذي حمل عنوان «النظام الإقليمي العربي». تحمس صديقي للفكرة واتفقنا على أن نفكّر كلانا في الأمر، ونعود للتشاور. فكّرنا ولا أذكر أننا عدنا للتشاور. كان الدافع وراء عرض الفكرة هو ما جاء في الفصول الأخيرة من كتابنا عن التحديات التي تواجه هذا النظام الإقليمي في مقبل الأيام وتهدد استقراره، وربما مصيره. وهو بالتحديد ما دفع زميلاً عزيزاً يقود قطاعاً فكرياً متميزاً في مؤسسة بحثية لها مكانتها المرموقة في عالمنا العربي، إلى الاتصال بي قبل أسبوعين. يبدو أنه توسم في شخصي القدرة، وربما الرغبة في كتابة دراسة مطولة عن العلاقة، إن وجدت، بين متغيرات القيم والعقائد في الإقليم خلال العقود القليلة الماضية، وبين الحال الراهنة للنظام العربي ومؤسساته. لم يفاجئني العرض بقدر ما فاجأتني، وفاجأته من دون شك، سرعة اعتذاري عن عدم الكتابة في هذا الموضوع.

لست نادماً على الاعتذار أو سرعة تقديمه، فأسبابي التي تقف وراءهما كثيرة. السبب الأهم شخصي ويتعلق بالتعقيدات التي يمكن أن تواجهني إن قبلت العرض ورحت أقرأ وأسأل وأبحث، ثم أقدمت على لحظة الكتابة لأكتشف عندها أنني ورطت نفسي في رحلة بحث عن الكآبة، تحت اسم البحث عن الحقيقة.

تحدثنا في كتابنا، أنه تشابهت إلى حد كبير على امتداد عقود النشأة الأولى، ظروف النمو في أنحاء الإقليم العربي ما أتاح وضع تصورات ممكنة التنفيذ على صعيد التكامل الاقتصادي. وتعددت المشاريع وأمكن للجامعة العربية أن تقنع بعض الأموال بالتوجه للاستثمار في مشاريع تكاملية. وحدث في العقد الرابع وما تلاه أن بدأ التشابه النسبي في ظروف الدول العربية ينحسر لمصلحة تفاوتات قابلة للاتساع، وتراجعت المفاهيم العروبية المشتركة.

أطلت برأسها، ثم بطولها، الطائفية والولاءات العرقية مستغلة غياب مفاهيم كانت وراء ارتقاء لغة الخطاب العروبي على طول فترات النشأة للنظام العربي. شهدت بنفسي، وشباب باحثون، صمود الخطاب القومي لمدد اختلفت باختلاف سرعات التغير المفهومي للسياسة الخارجية في دولة عربية عن الأخرى. حافظت دول على نص الخطاب وخضع للتغيير في دول أخرى بخلطه أحياناً بنماذج أكثر واقعية.

وتصادف، أو حدث بفعل فاعل، أن تمدد نشاط ونفوذ تيارات دينية متطرفة حتى تمكنت من تولي السلطة، في موقع أو آخر، وتمكنت أيضاً من النفاذ إلى مستويات عالية في قطاعات الإعلام العربي. ومن هناك استطاعت، وبدرجات متفاوتة من النجاح، خفض مستوى انتشار الخطاب العروبي.

وكثيراً ما تعللنا بالأجانب سبباً لتدهور حال العرب، ولم نكن دائماً من الظالمين. كانت الغزوة الأمريكية للعراق سبباً كافياً وحده لتبرير الأزمة الناشبة منذ ذلك الحين في الضمير العربي المشترك. ونشبت أزمة في وقت سابق سميت بأزمة النكبة، وهذه خلّفت آثاراً مباشرة في هياكل كثيرة في العالم العربي. ثم نشبت أزمات أخرى كلها خلفت آثاراً.

كل هذا، وغيره، انعكس على فكر وعمل المؤسسات الجماعية العربية، في شكل أو آخر. حيناً تبنت ما أطلقنا عليه الرومانسية القومية، أو القومية الرومانسية ولها نوعها من المؤسسات. وفي حين آخر تبنت طابعاً مزدوج النوايا، نية ادعاء البطولة ونية امتصاص غضب الشعوب.

وتباطأ الزمن على العرب. ولم يعد العرب شيئاً واحداً، كما في كتابات السنوات الأولى لاستقلالهم. تفاوتت السياسات. وانسحب الفكر القومي من أغلب الساحات، وبدقة أكبر انسحب تأثيره، حيثما وجد متناثراً، في صنع السياسة والقرار في العالم العربي. نذكر الآن كيف أنه في وقت من الأوقات كان في نظر بعض المسؤولين يمثل تهديداً مباشراً عليهم. ثم جاءت مرحلة صار الخطر الماثل الحقيقي هو القادم من عوامل الانفراط من الداخل.

فشل الإعلام العربي في كثير من مهامه، وأهمها لمّ الشتات. أو أنه لم يوجد عندما دعت الحاجة. أو أنه كما قال لي الأمين العام الأسبق للجامعة العربية، محمود رياض، في مكتبه بالجامعة العربية، في نصيحة لم أقدّرها حق قدرها في وقتها. قال يوجد الإعلام حين توجد سياسة، لن تستطيع حشد ما تسمّونه طاقات إعلامية لإنقاذ الأمة طالما بقيت دول الجامعة غير موحدة وراء سياسة بعينها. تغيّرت توجهات الدول الكبرى فتعددت مواقف الدول الأصغر، بتعدد هذه التوجهات.

أمريكا لم تعد العملاق الذي لا يمرض ولا يخطئ. ولم تعد أوروبا على استعداد لأن تبقى دائماً دولاً غنية تابعة. وروسيا تريد استعادة بعض ما فقدت خلال سنوات الانفراط السوفييتي. والصين بزغت قوة عظمى بلا منازع حقيقي إلا أمريكا منافساً. عالم بسياسات متصارعة.

هناك أصوات كثيرة تجأر عالية. حاول أن تسمعها. وفي الأغلب لن تفهم، فكلها تهتم بتفاصيل لن تهمك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p98tb5e

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"