شتان ما بين القيادة والهيمنة

00:29 صباحا
قراءة 4 دقائق

علّمتنا الأيام، ولا تزال تُعلّمنا، أن مسافة بعرض شعرة تفصل بين القيادة والهيمنة. تلقينا هذا الدرس، كأطفال ومراهقين وشباب، في حياتنا الخاصة، وتلقيناه كدارسين ومراقبين وممارسين للعلاقات بين الدول. أذكر، وأعتقد أن آخرين في مثل عمري يذكرون، كم تمردنا على تلميذ من بيننا تجاوز دوره كقائد للفصل، أو اختلط عليه الأمر فراح يهيمن ويسود، بدلاً من أن يضبط ويقود. وكم ارتضت مجموعة دول أن تقود مسيرتها دولة من بينها، شاء حظها، أو حققت لها أجيال سابقة من الإنجازات وعناصر الفهم والقوة ما سمح لها بأن تقود. وفي كل الأحوال، إن لم تخنّا الذاكرة، كانت الإنجازات التي حققتها وعناصر حسن الفهم والتقدير والقوة التي توفرت لها قابلة لرضاء واستحسان شعوب الدول الأخرى في المجموعة، فاكتملت لهذه الدولة شرعية قيادة دول هذه المجموعة.
  المثير في الأمر، أكاديمياً وواقعياً، أنه تصادف مع انفراد أمريكا بالقيادة الدولية بدء انحدارها، وظهور منافسة قوية تهدد استدامة أحاديتها. هذه العملية احتاجت لتكتمل نحو ثلاثين عاماً.
 مثير أيضاً أن شرعية القيادة التي تكوّنت لمصر تدرجت صعوداً في مرحلة سعي دول عربية عدة، للحصول على الاستقلال، واكتملت حين اقترنت بصعود قومي عارم في كل أرجاء الأمة العربية، ثم انحسرت بشدة أمام منافسة كثيفة من جانب قوى إقليمية صاعدة من خارج النظام العربي، ومن داخله. 
    نرى أمام عيوننا جاهزية متزايدة للمنافسة استعداداً لمستقبل غامض، بدايات خيوطها متشابكة، ونهاياتها غاطسة في أفق لا يرى ما قبله، ولا ما بعده، مستقبل لا أحد في الغرب حتى في أمريكا يستطيع أن يتخيّل حدوده، وشكله، وتوازناته.
  المنافسة بين الدول، من حيث المبدأ وضمن شروط معينة، مفيدة في صنع الرخاء والنهضة لأطرافها. فالأمة التي لا تنافس تفتقر إلى الطموح ومآلها، في الأغلب، إلى زاوية نسيان. ولكن نعرف في الوقت نفسه أن للمنافسة وجهاً آخر، بل وجوهاً عدة غير طيبة إن هي خرجت عن سياقاتها، السلمية والمعتدلة والشرعية. من هذه الوجوه على سبيل المثال، وليس الحصر، ما يلي:
  *أولاً: يذهب مفكرون، وبينهم علماء سياسة، إلى أن المنافسة بين الدول مسألة صفرية، أو قد تصبح كذلك خلال ممارستها. بمعنى أن الطرفين يعتبران أن ما يكسبه أحدهما يساوى خسارة للآخر، وما يفقده طرف يحسبه الآخر مكسباً. مثل هذا الاقتناع يمكن أن يجر الطرفين، أو أحدهما، في النهاية إلى استخدام أسلحة دمار شامل، ومنها السلاح النووي.
 *ثانياً: كما أن المنافسة إذا احتدّت، أو صارت شرسة، يمكن جداً أن تدفع السياسيين إلى التخلي عن قيم إنسانية، أو أخلاقية. ورأينا دولاً تستخدم في لغاتها الإعلامية وممارساتها التفاوضية، بخاصة خلال الأزمات، أنواعاً شتى من النفاق والكذب والعنصرية. ومثل هذه الممارسات لو طال وقتها لتركت في الذهنية والذاكرة الشعبية آثاراً، صعب أن تمحى في وقت منظور.
  *ثالثاً: لا شك في أن وجود الصين كظاهرة نجاح خارق في بناء الأمم والصعود في النظام، الإقليمي والدولي، على حد سواء، بكلفة زهيدة، شجّع دولاً عدة على الاستمرار في استخدام أساليب حكم شعبوية ظناً من حكامها أنهم بأسلوبهم في الحكم ينقلون عن الصين برامجها في التنمية والنهوض، وهو ظنّ خاطئ، بل يمكن أن يولد بممارسته كوارث. وحدث في الجماهيرية الليبية ما يقترب من شكل الكارثة عندما أصرّ الحاكم المفرد في ذلك الحين على أن يجرب قيادة ثورة ثقافية في مجتمع قبلي، وعلى أن يمتلك في الوقت نفسه قنابل ذرية بالشراء من باكستان، أو غيرها، فيصير زعيماً في الإقليم، وندّاً لزعماء الدول العظمى. منافسة كهذه أودت بحياة الزعيم الليبي حين قررت الدول العظمى تصفيته، وكلفت حلفها الأطلسي بتنفيذ هذه المهمة.
 *رابعاً: كنّا شهوداً، خلال السنوات الأخيرة، على مقدمات صراع دولي تحت عنوان منافسة بين دولتين، إحداهما عظمى تسعى للمحافظة على موقعها كقطب دولي أوحد، وأخرى صاعدة بكل معاني المفهوم، وتحلم بما هو أبعد من مجرد احتلال موقع عند القمة، تحلم بتوسيع القمة فتكون تعددية، لا تهيمن، بل تعددية تقود. وقيل لنا من واشنطن إنها مجرد منافسة. وقيل أيضاً، وباللسان نفسه، إن الطرف الآخر في هذه العلاقة وهو الصين عدو لأمريكا، بل لعله في نظرهم، ونظر الرئيس ترامب تحديداً، العدو الأعظم للغرب كله، وللبشرية ولتاريخ الحضارة. وبالفعل غابت علامات المنافسة وبرزت مؤشرات صراع يمكن له في مرحلة من مراحله أن يدمر في طريقه أمماً عدة تحت مسمى المنافسة.
  يجب الاعتراف أيضاً، بأن هذه المرحلة، حسب الرأي السائد بين المتخصصين في شؤون العمل العربي المشترك، بخاصة في شؤون جامعة الدول العربية، كانت الأسوأ من حيث إنها جمّدت حال العمل المشترك، وجمّدت مبادرات تطوير الجامعة، أو إصلاحها، وساهمت بالنصيب الأوفر في بعثرة الجهود والنوايا المخلصة التي كانت تسعى لإعادة لم الشمل الذي تفرق في أعقاب تنفيذ مصر نيتها التخفيف من أعباء قيادتها للجامعة، وتنفيذ دول الجامعة نيتها لمعاقبة مصر بتجميد عضويتها في الجامعة.
  هنا أميل إلى أن أردد مع المرددين الأمل في أن تستعيد الدول العربية التمسك بالسياسات القائمة على مبادئ المنافسة الصحية في السياسة الخارجية، والعزوف عن السياسات التي نتجت عن استخدام مفهوم المنافسة لتختفي تحته سياسات الصراع والخلاف وتشتيت المصالح العربية. أظن أننا ربما نكون على الطريق السليم، بالنظر إلى التغير الواضح في ملامح السياسة الخارجية لعدد من الدول العربية التي اتخذت مؤخراً، وبمخاطرة تبدو محسوبة، مواقف ومواقع مستقلة نسبياً عن الهيمنة الأمريكية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yexa2tcb

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"