المعهد السويدي كان في الإسكندرية

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.مصطفى الفقي
عندما بدأت العمل مديراً لمكتبة الإسكندرية عام 2017 تعرفت إلى كيان أجنبي متميز يضاف إلى رصيد التعددية التي ازدهرت بها مدينة الإسكندرية عبر القرون، فكانت تضم إلى جانب المصريين جاليات يونانية وإيطالية وأرمنية وشامية، بالإضافة إلى وجود يهودي مقيم بحيث تعايشت كلها ثم تشكلت منها أبعاد الشخصية المحورية لتلك المدينة التي عرفت بتعدد الثقافات والديانات، وبقيت دائماً مظهراً حياً للتفاعل البشري وتجربة التعايش المشترك منذ طفولة التاريخ.

أعود إلى المعهد السويدي الذي قمت بزيارته بعد وصولي إلى الإسكندرية بأسابيع قليلة، فوجدت المبنى يتميز بطرازه المعماري وجمال بنائه الذي جعله بحق أيقونة وسط مباني الإسكندرية العريقة، ولقد درست طبيعة أنشطة المعهد ودوره التثقيفي والاجتماعي والموضوعات التي يطرحها للدراسة، واكتشفت أن فيها ما يعزز الصورة التي تكوّنت لدى البعض وأدت إلى التباس دور تلك المؤسسات الثقافية الأجنبية وتداخلها مع بعض الأنشطة غير المقبولة في بلادنا، والتي تحتاج إلى المزيد من الدراسة وسعة الفهم قبل أن تتكون.

إن مصر هي أم الحضارات ومن هنا جاءت التسمية المعروفة عن مصر (أم الدنيا) كما سماها حاكم أكبر دولة في العالم منذ أسابيع قليلة في قمة شرم الشيخ الرئيس الأمريكي جو بايدن، ولقد تناقشت كثيراً مع هيئة المعهد السويدي عن سبب انتقالهم من مصر إلى الأردن، وكانت إجابتهم مهذبة وغير واضحة في الوقت ذاته، وكان لديهم ما لا يريدون قوله، واقترحت عليهم أن يتركوا المبنى في حيازة مكتبة الإسكندرية تمارس منه نشاطاً حضارياً مشتركاً ينطلق من عروس البحر المتوسط ليتعامد مع الحضارات والديانات الإفريقية والآسيوية والأوروبية التي تحيط بقلب العالم القديم.

وفهمت منهم أن المبنى مملوك للكنيسة في السويد، وطلبت أن يأتيني من أتحاور معه في هذا الشأن، وجاءني مسؤول سويدي من بلاده، واتفق معي عند مناقشة الأمر أنه لا توجد مؤسسة ثقافية في مصر يمكن أن ترعى المعهد السويدي إذا استمر، إلا مكتبة الإسكندرية بتاريخها العظيم وحاضرها الرائع، ثم انقطعت أسباب الحوار فجأة، واتخذت الحكومة في السويد قرارها بالانتقال إلى دولة الأردن الشقيق، حتى كشف الكاتب الوطني القدير والمثقف المصري اللامع د. محمد أبو الغار ما جرى، وهو ما دفعني إلى كتابة هذه السطور؛ لأنني مؤمن بأن مصر هي مصدر القوى الناعمة التي تصدّرها للغير حتى ولو كانت بالشراكة مع طرف ثالث، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:

* أولاً: إنني أعترف بداية أنني ممن يدركون أن الحضارات تتواصل، وأن الثقافات تتداخل، وأن العزلة حالة شاذة في العلاقات الدولية المعاصرة، وأنه لا يمكن أن يعيش المجتمع منفصلاً عن باقي الكوكب، لذلك فإن وجود هيئات داخلية ومؤسسات أجنبية هو أمر له مردود إيجابي.

* ثانياً: إن المبالغة بالتهويل أو التهوين في مسألة الأمن المتصل بسلامة الدولة ومنشآتها ومواطنيها هي خط أحمر لا يتجاوزه أحد، وليست تلك بدعة مصرية، ولكنها ظاهرة عالمية، خصوصاً مع تنامي المد الإرهابي، وشيوع الجريمة المنظمة، واستهداف دول بذاتها؛ لأنها تمثل رمزاً خاصاً عبر التاريخ، ومن خلال موقعها الجغرافي، ولعل مصر أوضح نموذج لذلك.

* ثالثاً: إن الوجود الأجنبي الآمن ضيف في بلادنا، هو أمر يمثل إضافة إيجابية لنا، بينما تبدو حالة النفور والاستغناء والتهويل أموراً لا فائدة منها ولا جدوى.

* رابعاً: يجب أن نلاحظ أننا عندما تراخينا في نظامنا التعليمي تراجعت سمعتنا المدرسية والجامعية منذ عدة عقود، وقد أسهم في وجود ذلك التدهور الاعتماد على نظرية الأعداد الكبيرة في مراحل التعليم المختلفة، وعندما تقلصت أدواتنا الثقافية والتعليمية فقد تقلص معها تلقائياً دور مصر السياسي.

* خامساً: أنزعج كثيراً عند إطفاء أحد المصابيح المضيئة في سماء الوطن، وأدرك جيداً أن ذلك جزء لا يتجزأ من غياب قدرتنا على التقاط الفرص والاحتفاظ بها، إلى جانب الإدمان المستمر في إهدار المكاسب المتاحة للوطن المصري، ولذلك أطالب بمراجعة تجربة المعهد السويدي خصوصاً وأن لدينا الكثير مما نقوله في هذا الشأن.

إن الوجود الأجنبي في مصر ليس خطيئة أو عيباً، ولكنه قوة مضافة إلى ما نملك من مقومات يجب ألا تضيع أبداً، بل يتحتم البناء عليها والاستفادة منها وتعظيم دورها من أجل صورة مشرقة لمصر بشعبها العريق وأرضها الطيبة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n8kjppd

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"