عادي
زاد القلوب

«حسن الأدب».. بداية طريق التواضع

16:49 مساء
قراءة 4 دقائق
«مخافة الله رأس الحكمة» للخطاط إسماعيل حقي

الشارقة: علاء الدين محمود

«مَنْ عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه».

إبراهيم بن أدهم

تلك الموعظة الحسنة هي للعلامة إبراهيم بن أدهم بن منصور بن يزيد بن جابر التميمي، «ويقال العِجْلي» البلْخي أبو إسحاق، «100 162 ه»، وهو أحد علماء السنة، واشتهر بالزهد والتصوف، والحكمة والصلاح، وعرف بتواضعه وكرمه، وقد صدرت عنه الكثير من الأقوال والمأثورات، كما كان له أسلوبه الخاص في الدعوة والهداية، مبتغياً الإصلاح قدر المستطاع، فهو شديد الحرص على تقديم تجربته وخبرته للناس ليتعظوا ويقتدوا بها، وكان واسع الاطلاع.

وتلك المقولة لابن أدهم، تحمل الكثير من القيم والأخلاق، وتساعد في تربية النفس وتهذيبها، وتأديبها بأدب الإسلام، وهي من باب الوعظ الشفيف الصادر من القلب، والذي يبتغي أن يطرق باب القلوب امتثالا لقول الله تعالى «ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»، فالمقولة تدعو إلى الطريق القويم، وهي عامرة بالإشراقات وفيوض المحبة والأنوار، وهي بمثابة زاد للسالكين الذي ساروا في طريق الحق والتقرب إلى الله تعالى، مبتعدين عن كل مغريات الحياة، جاعلين الآخرة مبلغ همهم، ولما كان الطريق إليها يمر عبر باب العمل في الدنيا، والصبر على التجارب والاختبارات والابتلاءات، وتهيئة النفوس في الحياة من أجل أن يغمرها الإيمان، فإن المقولة تقود إلى تلك المعاني.

**رسالة

وهذه الموعظة هي في الأصل رسالة من العلامة ابن أدهم، إلى صالح آخر، وعالم كبير، هو سفيان الثوري، ومثل تلك الرسائل كان متعارف عليها بين أئمة ومشايخ المسلمين، يتبادلون فيها النصح والمعارف، ويبذلون فيها تجاربهم الإيمانية والروحانية للناس عامة، من أجل الاطلاع عليها والعمل بها، وهذا ما أكد عليه الثوري عندما قال لابن أدهم: «هذا العلم الذي جمعنا أريد أن أصفه لغيري»، وفي ذلك الكثير من الأقوال والرسائل والحِكم المتبادلة بين العالمين الكبيرين، اللذين عملا بجد واجتهاد من أجل أن يعمّ خير مواعظهما ومعارفهما الناس أجمعين.

والمقولة تدعو المسلم إلى معرفة طريقه، وما يريد في هذه الحياة الدنيا، فتلك المعرفة تختصر عليه الكثير، وتجعله يبذل كل وقته، وما غلا عنده، من أجل الوصول إلى ما يصبو إليه، وهي حكمة تحرض على الثبات على القيم والأخلاق الفاضلة التي تهذب نفس المؤمن، فهي تشدد على ضرورة العمل الحسن، وأن يمسك المرء لسانه فلا يقول إلا حسنا، والمقولة هي ضمن معاني الزهد التي اشتهرت بها مواعظ وحِكم ابن أدهم، ومنها قوله: «قلة الحرص والطمع تورِث الصدق والورع، وكثرة الحرص والطمع تورث الهم والجزع»، وكلها تصب في تقوية إيمان المسلم، الذي يجب أن يوطن نفسه الخلق الحسن والزهد.

*الثري الزاهد

وعلى الرغم من أن المقولة تحرض على الزهد، بالتأدب وترك كل المغريات من أجل التقرب إلى الله تعالى، إلا أن ابن أدهم لم يدعُ قط إلى اعتزال الحياة، بل كان شديد التمسك بضرورة العمل والجد فيه، وإتقانه، فهو عبادة، كما أن المسلم يختبر حسن إيمانه عبر الاختلاط بالناس، ولعل من أكثر الدلائل على زهد ابن أدهم، أنه قد ترعرع في كنف أب من الأثرياء، لكن الابن فضّل الابتعاد عن ثروة أبيه الواسعة والزهد فيها، فالمرء يلجأ أحياناً إلى ترك مطامع الدنيا لأنه لا يملك إليها سبيلاً، بينما كان ابن الأدهم رجلاً ثرياً، غير أنه فضل حياة التقشف، فقد عمل على كسب عيشه بيده، وكان كثير التفكر والصمت، بعيداً عن حب الدنيا، وما فيها من شهرة وجاه ومال، حريصاً على الدعوة والوعظ، ورُوي أنه كان يعمل في الحصاد وحفظ البساتين، وغير ذلك، وينفق على من في صحبته من الفقراء، الذين كان يحسن إليهم ويساعدهم ويستمع إليهم، ويهديهم الحكمة والموعظة، وكان يدعو إلى الشدة في الدنيا من أجل الراحة في الآخرة، وفي ذلك قصة تروى عنه، إذ قال ابن الأدهم لرجل في الطواف: «اعلمْ أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات: أولاها: تغلق باب النعمة، وتفتح باب الشدّة. والثانية: تغلق باب العز، وتفتح باب الذل. والثالثة: تغلق باب الراحة، وتفتح باب الجهد. والرابعة: تغلق باب النوم؛ وتفتح باب السهر. والخامسة: تغلق باب الغنى، وتفتح باب الفقر. والسادسة: تغلق باب الأمل، وتفتح باب الاستعداد للموت»، وظل ابن الأدهم يعمل على تلك الموجهات التي وضعها حتى لاقى ربه وهو لا يحمل من متاع الدنيا غير الإيمان، وشهد عليه الناس بالأدب الجم والأخلاق العالية الرفيعة.

ولد ابن أدهم في مكة، ونذر حياته للدعوة، فكان أن ضرب في الأرض، يحمل المعرفة بتعاليم الإسلام، والمقدرة على المحاورة والمجادلة حجة بحجة، وبرهاناً ببرهان، وصبراً كبيراً في إيصال الفكرة والمعلومة وإقناع المجادلين، وله في ذلك الكثير من الحكايات والقصص التي قد يكون بعضها غريباً، ومنها حادثة شهيرة تداولها الناس قديماً، حيث رُوي أن رجلاً جاء إلى ابن أدهم، فقال له: يا شيخ، إن نفسي تدفعني إلى المعاصي، فعِظني موعظة، فقال له إبراهيم: «إذا دعتك نفسك إلى معصية الله فاعصِه، ولا بأس عليك، ولكن لي إليك خمسة شروط.. قال الرجل: هاتها.. قال إبراهيم: إذا أردت أن تعصي الله فاختبئ في مكان لا يراك الله فيه، فقال الرجل: سبحان الله.. كيف أختفي عنه.. وهو لا تخفى عليه خافية، فقال إبراهيم: سبحان الله، أما تستحي أن تعصي الله وهو يراك»، فسكت الرجل، وهكذا يستمر الحديث بينهما وصولاً إلى الشرط الخامس، وظل الرجل يقول: زدني، فقال إبراهيم: فإذا قرأت ذنوبك في صحيفتك، فانكر أن تكون فعلتها... ثم بكى الرجل، ومضى، وهو يقول: أين الكرام الكاتبون، والملائكة الحافظون، والشهود الناطقون. وذلك غيض من فيض حكايات وسيرة هذا الرجل المحب الزاهد التقي الورع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4jpe49e2

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"