عادي
زاد القلوب

«محبة الله»... نور المؤمن

17:08 مساء
قراءة 5 دقائق
لوحة للخطاط مثنى العبيدي

الشارقة: علاء الدين محمود

«يبتلي الله العبد بأحب الناس إليه، ليريه أن الناس تتخلى عمن أحبت والله لا يترك من أحب».

جلال الدين الرومي

تلك المقولة المتعطرة بأريج المحبة الخالصة هي لمحمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي البكري، الشهير بجلال الدين الرومي (604 -672 ه )، وهو علم من أعلام الإسلام والفقه والتصوف والتجارب الروحية، فهو صاحب الطريقة المولوية، له الكثير من المقولات والحكم والأشعار؛ حيث كان لنصوصه الشعرية، ومؤلفاته الصوفية التي تحتضن كتاباته الشذرية ومقولاته الخالدة، والتي كتبت في معظمها باللغة الفارسية وبعضها بالعربية والتركية، تأثيرها الكبير في العالم الإسلامي، وبشكل خاص على الثقافة العربية والفارسة والأوردية والتركية والبنغالية؛ حيث تمدد اسمه في كل تلك البقاع؛ بل وشملت العالم أجمع بعد أن ترجمت الكثير من إصداراته ومأثوراته إلى العديد من اللغات العالمية؛ حيث لقيت صدى واسعاً إلى درجة أن إذاعة ال«بي بي سي» البريطانية، كانت قد وصفته بالشاعر الأكثر شهرة في الولايات المتحدة الأمريكية وكان ذلك في سنة 2007.

ولد الرومي في بلخ، أفغانستان وانتقل مع أبيه إلى بغداد، في الرابعة من عمره، فترعرع بها في المدرسة المستنصرية؛ حيث نزل والده. ولم تطل إقامته فقد قام أبوه برحلة واسعة ومكث في بعض البلدان مدة طويلة، وهو معه، ثم استقر في قونية سنة 623 ه في عهد دولة السلاجقة الأتراك، وعرف جلال الدين بالبراعة في الفقه وغيره من العلوم الإسلامية، فتولى التدريس بقونية في أربع مدارس، بعد وفاة أبيه سنة 628 ه ثم ترك التدريس والتصنيف والدنيا وتصوّف سنة 642 ه أو حولها، فشغل بالرياضة وسماع الموسيقى وكتابة الشذريات ونظم الأشعار وإنشادها.

*وردة

المقولة، هي بمنزلة وردة من حديقة الرومي المملوءة بالمأثورات والأقوال والشذرات والأشعار التي توجهت نحو محبة الله تعالى، والتي جعلت من الرومي واحداً من أبرز الأسماء التي بقيت في وجدان الناس وأثرت في مفاهيمهم الروحانية، فهي دعوة تفيض كلماتها رقة وعذوبة، وهي تنتمي بالفعل إلى أسلوبية وطريقة هذا الصوفي الجميل الذي تغنى بالحياة والحب والخير والجمال، بمفردات ومعانٍ روحية رفيعة متوشحة بهالات من الأنوار والإشراقات، وتلك المقولات تحمل كذلك الحكمة، وتدعو إلى التأمل في موجودات ومخلوقات الله تعالى، فهو أحسن الصانعين، وقد اشتهر الرومي بمثل تلك المقولات المتدبرة في الوجود؛ حيث تميزت بنزعة فلسفية ووجودية خاصة، فيها الكثير من التجلّي الروحي، فكانت شذراته ومقولاته وكأنها مكتوبة بمداد خاص، صاغتها قريحة باحثة عن المعنى الخالص، وتتضح فيها جماليات التصوف والروحانيات بأسلوب فريد، وعن هذه النزعة كتب النقاد: «يتناول الرومي معاني الصوفيَّة، التي تبزغ من نَفْس إنسانيَّة والرومي هنا، لا يمسّ الحياة المادّيَّة؛ بل يحلّق في سماء العالَم الروحيّ، متحدّثاً عن المحبّة الإلهيَّة، التي هي سعادة الإنسان الأبديَّة وكمال الخلود».

ولعل المقولة تحكي عن سير المحب الزاهد في طريق السالكين، وهو يحمل في طياته تفاصيل رحلة روحية عامرة بالجمال؛ حيث يلقى فيها المحب الصوفي ما يلقى من فيوضات نورانية، تشكل عنده تجربة عظمية تنعكس على أقوال الصوفيين وأشعارهم؛ لذلك دائماً تتميز المقولة الصوفية بعطرية خاصة تفوح على المتلقين فيُحلّقون في عوالم من المدد النوراني؛ إذ تلامس وجدانهم، وتصور حال أنفسهم التي تهفو إلى طريق الله، تعالى، ولعل من أكثر المواضيع التي تناولها الصوفيون، هو الحب وما يجده السالك من وجد وهيام وشوق إلى لقاء المحبوب في طريق طويل، يعمل من خلاله المؤمن العابد على التخلي عن كل الأطماع الدنيوية والمادية من أجل ممارسة فعل التقرب إلى الله، عز وجل، ولئن كان الزهد هو التخلي عن كل شيء في الحياة، فهو في ذات الوقت يحمل طعماً من نوع آخر وهو التوق إلى رضا الله تعالى والدخول في جنانه، فالمؤمن يترك الدنيا من أجل الآخرة، فهو يستعيض عن دار الفناء بدار البقاء.

*عشق راسخ

وفي هذا السياق، فإن المقولة هي دعوة للتمسك بما هو باقٍ، وترك ما هو فان؛ حيث إن الحب البشري يتقلب بتقلب أوضاع الحياة والنفوس، لكن الحب الموجه إلى الله تعالى لا يتأثر بشيء، وهو الأسمى والأبقى، وتشير المقولة إلى فعل الابتلاء في العلاقات الإنسانية، وفيها يصمد من يصمد ويسقط من يسقط، لكن حب رب العالمين لا سقوط فيه، لأن الله تعالى لا يتخلى عن العبد الذي أحبه وترك الدنيا من أجله، بينما يخذل المحبوب الدنيوي حبيبه في العلاقات البشرية التي تتقلب بين الوصل حيناً والفراق تارة، والقرب مرة، والبعد مرات؛ وذلك ما لا يلقاه المحب في علاقته مع ربه، فهي دائمة ومستمرة مادام العبد يتمسك بإيمانه بربه، فهو في تلك الحالة في نعيم دائم وسرور لا ينقطع وروح وريحان يرضى بما يلاقيه في سبيل ربه، ويقنع بما يقسمه الله تعالى له، فهو في حالة تسليم كامل لإرادته ومشيئته لا يحيد عن طريقه الذي يتلقى فيه المدد الروحي والفيض النوراني، فتطمئن نفسه وترضى، فيكتب عند الله من المرضين عنهم، فيالها من نعم عظيمة، وأطياف وهالات من الأنوار لا يلقاها إلا من كانت محبته لله تعالى خالصة وصادقة.

وهذه المقولة الباذخة، والحكمة العظيمة، ضمن أقوال وأشعار أثر بها الرومي في العالم أجمع، فحتى الثقافة الغربية كان لها نصيب من آثار مقولات الرومي، وقد وصفه أدباء الغرب بأنه من أعظم أدباء وشعراء العالم، في عُمْقِ الفكرِ، وابتكار الصور، فقد تجاوزت آثار الرومي حواجز اللغة والدين والثقافة لتصل إلى شعوب وحضارات مختلفة، ممن رأوا في التصوف طريقة حياة ومزيجاً من الفلسفة والحكمة العملية، لترتفع راية الإسلام في العالم كله بفضل الكلمة الطيبة البليغة، وكان للمستشرقين الغربيين أثر كبير في تعريف العالم الغربي بالرومي، وازداد الاهتمام بأدبه في أوائل القرن العشرين، من خلال مستشرقين درسوا ونقلوا أعماله إلى الفرنسية والألمانية وغيرها من اللغات.

*الأدب الحديث

وكان لهذه المقولة، وغيرها من أقوال في محبة الله تعالى لابن الرومي، التأثير الكبير على الأدب؛ حيث استلهمت في الكثير من الأعمال الشعرية والروائية المعاصرة والحديثة، ولعل من أشهر الأعمال السردية التي جعلت الرومي حاضراً بقوة في المشهد الثقافي العالمي هي رواية «قواعد العشق الأربعون» للكاتبة التركية أليف شفق، التي صدرت عام 2010، تلك القطعة السردية التي لقيت شهرة كبيرة وواسعة وتناولت علاقة الصداقة التي ربطت بين الرومي وشمس الدين التبريزي، وأبرزت جوانب كثيرة من تعاليم وأفكار الرومي الصوفية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycxybnud

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"