السياسة والسوق

01:00 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

أعلنت شركة «سامسونغ» الكورية الجنوبية أنها ستخفض انتاج الرقائق الالكترونية بنسبة كبيرة لمواجهة الفائض منها في السوق الذي جعل أرباحها للربع الأول من هذا العام تنخفض بشدة. وفي الوقت الذي تعد فيه الرقائق الالكترونية البند الأهم في الحرب التجارية والتكنولوجية بين الغرب بقيادة أمريكا والشرق تتقدمه الصين يأتي قرار الشركة الكورية دون أن يلقى أي رد فعل من جانب أي من المستهلكين للرقائق لا في الغرب ولا في الشرق.

 تجد العكس تماماً مع رد الفعل على أي قرار من منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك) يستهدف الحفاظ على توازن معادلة العرض والطلب في سوق الطاقة. قد يتحجج البعض بأن النفط والغاز هما دينامو النشاط الاقتصادي حول العالم، وبالتالي فأي تغيير في سوق الطاقة يقلق السياسيين أكثر. لكن ذلك مردود عليه بأن الرقائق الالكترونية ومنتجات أشباه الموصلات أصبحت عضد كل صناعة في العالم اليوم تقريباً.

 فلم يعد استخدام الرقائق وأشباه الموصلات ضرورياً فقط لانتاج أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية بل إن معظم المنتجات الآن تعتمد عليها، من صناعة السيارات إلى بطاقات الائتمان مروراً بكل أدوات المنازل والمنتجات الضرورية لتلبية متطلبات الحياة اليومية للبشر.

 الأمر ببساطة هو أن الولايات المتحدة وأوروبا ترغبان في «توطين» إنتاج الرقائق وأشباه الموصلات وتحتاجان إلى استثمارات شركات آسيوية، خاصة من كوريا الجنوبية لتحقيق ذلك الهدف. كما أن تخصيص مليارات الدولارات لزيادة الانتاج في الغرب يستهدف أيضاً خنق التجارة الصينية في ذلك المكون الأساسي في كافة الصناعات تقريباً الآن.

 هي السياسة إذاً التي تتدخل في السوق، الذي يفترض أنه «حر»، التي تجعل العالم يصمت أمم خفض انتاج الرقائق وأشباه الموصلات رغم الحاجة إليها. ولعلنا نتذكر تعطل صناعة السيارات حول العالم قبل أكثر من عامين حين تعطلت سلاسل التوريد لتلك المنتجات خاصة من الصين.

 رغم ادعاء حرية السوق والدفاع عنها نظرياً من قبل الدول الرأسمالية الكبرى، إلا أن ذلك لا يحدث إلا لأسباب سياسية أيضاً. إما تتعلق بالضغط على دول ما أو استجابة لضغوط الشركات الكبرى في الدول الغربية التي تعمل على تعظيم عائداتها وأرباحها.

 الأمثلة كثيرة على تدخل السياسة في السوق، خاصة من قبل الدول الرئيسية التي تحاضر العالم بشكل مستمر حول حرية السوق وشفافيته وترك العرض والطلب غير المقيد بدعم أو تدخل لتحديد الأسعار انخفاضاً أو ارتفاعاً. في المقابل، لا تستهدف قرارات أوبك تحديد أسعار للنفط، إنما تستهدف توازن السوق في ضوء الطلب العالمي بألا يزيد العرض كثيراً بما يؤدي إلى تخمة في السوق تضر بالمنتجين والمستهليكن على السواء.

 ويتغاضى العالم عن أن السبب وراء الخفض الطوعي الأخير للانتاج من قبل أعضاء أوبك هو قرار الولايات المتحدة الشهر الماضي التوقف عن شراء النفط لملء مخزونها الاستراتيجي بهدف زيادة تخمة المعروض كي تنهار الأسعار أكثر وينخفض سعر الوقود في محطات البنزين الأمريكية لأسباب انتخابية (أي سياسية).

 ليس ذلك هو التدخل الوحيد من قبل السياسيين في سوق الطاقة بهدف زيادة الاختلال في معادلة العرض والطلب. بل إن الشق الخاص بالطاقة في العقوبات الغربية على روسيا لا يمكن إلا اعتباره تدخلاً سياسياً أيضاً في أسواق الطاقة العالمية. فالحظر الأوروبي على واردات الطاقة من روسيا وفرض أمريكا وحلفائها سقف سعر للنفط الروسي يستهدف بالأساس خفضاً قسرياً للأسعار. وفي المقابل تزيد استفادة شركات الطاقة الأمريكية الكبرى من تعويض أوروبا بالنفط والغاز بدلاً للواردات الروسية. وفي الأشهر القليلة الأخيرة زادت أرباح تلك الشركات الأمريكية بأكثر من مئة مليار دولار نتيجة زيادة مبيعاتها لأوروبا.

 كما يقول المثل، «يمكنك أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت لكن لا يمكنك أن تخدع كل الناس كل الوقت». ويبدو أن الأمريكيين وحلفاءهم لا ينتبهون إلى أن كثيرين حول العالم ما عادوا ينخدعون بذلك الإنشاء اللفظي تحت شعارات حرية السوق وعدم تدخل السياسة في معاملات التجارة المفتوحة وما إلى ذلك. كما أنهم لا يدركون التغيرات التي تحدث حول العالم، وسعي بلاد كثيرة وتجمعات إقليمية لتقديم مصالحها الوطنية والاقليمية على أي اعتبارات أخرى. لذا يخسر الأمريكيون والغرب قوة تحالفاتهم السابقة مع كثيرين.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdh58rwu

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"