منطق ويستفاليا

00:56 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الحسين شعبان

منذ أن أُعلن الاتفاق السعودي - الإيراني الذي التأم برعاية صينية، أصبح محطّ تكهّنات عدة بين متفائل، بل وشديد التفاؤل، وبين متشائم وشديد التشاؤم، وبين هذا وذاك، هناك بعض الأوساط تعاطت معه بحذر، وبشيء من «التشاؤل»، باستعادة رواية إميل حبيبي «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل».

  والأمر لا يتعلّق بمضمون الاتفاق وأبعاده، بل باحتمالات امتداداته وتأثيراته في عموم دول المنطقة، من دون نسيان ما قد يعترضه من تحديات وضغوط، من داخله ومن خارجه، الأمر الذي يحتاج لدوامه، توفر الثقة والصدقية في تنفيذه، بما يُخفّف من حدّة التوتّر بين البلدين، وفي المنطقة، ويطوي الشكوك، ويُزيل العقبات والألغام من طريقها، لاسيّما انعكاساته على أوضاع اليمن ولبنان وسوريا والعراق، فضلًا عن دول الخليج.

 ويمكن قراءة ردّ الفعل «الإسرائيلي» الحاد ضدّه منذ إعلانه، والترقّب التركي الملحوظ، وبلا أدنى شك فإن الملف النووي الإيراني سيكون حاضراً أمريكياً، وليس بعيداً عن ذلك استمرار الحرب الروسية - الأوكرانية، وتصاعد احتمالات مواجهة بين روسيا وحليفتها الصين من جهة، وبين الغرب وحلف الناتو، من جهة أخرى.

 وبغضّ النظر عن التقديرات المتناقضة بخصوص مستقبل العلاقات السعودية - الإيرانية، فإن أية علاقة إيجابية بين دول المنطقة يمكن رؤيتها في إطار الحفاظ على السلم والأمن في المنطقة، بوقف النزاعات، ونزع فتيل التوترات وإطفاء بؤر الحروب التي عانتها، الأمر الذي سينعكس إيجابياً كذلك على تنمية شعوبها، بما يعزّز علاقاتها الاقتصادية والتجارية والاجتماعية والثقافية، التي يفترض فيها أن تقوم على أساس احترام السيادة وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية ومراعاة المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

 لقد عانت المنطقة خلال ثلاثة أرباع القرن الماضي حروباً ونزاعات أساسها العدوان الإسرائيلي المتكرّر على الأمة العربية، بما فيه ما يجري اليوم من عنف وإرهاب طال المقدسيين، إضافة إلى توسيع أعمال الاستيطان المدان بموجب القانون الدولي، فضلاً عن التنكّر لحق الشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه، وإقامة دولته المستقلّة على أرضه، كما شهدت المنطقة حرباً ضروساً عراقية - إيرانية استمرّت لثمانية أعوام، وفيما بعد حرباً ثانية في الخليج بعد غزو قوات النظام العراقي السابق للكويت، والتي توجّت بحصار دولي ثم احتلال العراق بعد أفغانستان.

 ولا تزال المنطقة تعاني صراعات مسلّحة ونزاعات أهلية وتدخلات خارجية متعددة استنزفت مواردها وبددّت طاقاتها، وهدرت إمكاناتها، وعرّضت وحدة دولها إلى التصدّع بدلاً من تعاونها واتحادها، الأمر الذي يفترض إجراء مراجعات على صعيد النخب، الحاكمة وغير الحاكمة، لمصلحة شعوبها عبر حوار مسؤول وجاد للوصول إلى صيغة توافق وتفاهم وتعاون قد تكون أقرب إلى وستفاليا مشرقية.

 لقد سبق لنا أن دعونا من هذا المنبر إلى ويستفاليا مشرقية يكون أساسها مفهوماً جديداً للأمن الخاص بالمجاميع الثقافية في ظلّ التنوّع والتعدّدية الدينية والإثنية واللغوية على صعيد كلّ دولة، وعلى الصعيد الإقليمي.

 ويمكن أن يكون الحوار السعودي - الإيراني نواة أساسية لحوار عربي - إيراني، وهذه المعادلة يمكن أن تفضي إلى فضاء إقليمي يشمل حواراً عربياً - تركياً، وحواراً عربياً - كردياً، وحوارات إيرانية - تركية، فمنطقتنا تتكوّن من أربع أمم أساسية هي: الترك والفرس والكرد والعرب، وهو ما أسماه الأمير الحسن بن طلال ﺑ «أعمدة الأمّة الأربعة».

 ولعلّ أي حوار، فضلاً عن أي اتفاق يتطلّب مناخاً صحّياً لإشاعة روح الثقة بالأفعال، وليس بالأقوال فحسب، من خلال خطوات تدرّجية ملموسة وعملية، فالسياسة في نهاية المطاف ليست بالنوايا.

 وإذا كانت «الحروب تولد في العقول»، لذلك اقتضى «تشييد حصون السلام في العقول أيضاً»، حسب دستور «اليونيسكو»، وهذا يتطلّب تغليب منطق العقل والمصالح والحوار والتفاهم، محل سياسات فرض الهيمنة والتسيّد وإملاء الإرادة.

 أليس حريّاً بأمتنا وشعوبنا العربية والإسلامية ودولها، وضع حدّ لنزاعات طائفية ومذهبية عقيمة، واحترابات دينية لا معنى لها، باعتماد صيغة أقرب إلى «اتفاقية وستفاليا» لبناء سلام دائم وشامل؟ وهو ما توصّلت إليه أوروبا بعد حروب عبثية بين البروتستانت والكاثوليك، خصوصاً حرب «الثلاثين عاماً»، التي أزهقت فيها أرواح ملايين البشر، وانتهت بتوقيع «اتفاقية ويستفاليا» عام 1648 التي وضعت حدّاً لتلك النزاعات، واعترفت بالسيادة والحق في ممارسة الطقوس والشعائر الدينية بحريّة، فضلاً عن حريّة مرور البضائع والسلع في إطار المصالح المشتركة. ويصبح مثل هذا الأمر لمنطقتنا «فرض عين وليس فرض كفاية».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2sh85h54

عن الكاتب

أكاديمي ومفكر وكاتب عراقي، وهو نائب رئيس جامعة اللاّعنف وحقوق الإنسان (أونور) في بيروت. له مساهمات متميّزة في إطار التجديد والتنوير والحداثة والثقافة والنقد. يهتم بقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني والأديان، والدساتير والقوانين الدولية والنزاعات والحروب. صاحب نحو 70 كتاباً ومؤلفاً.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"