ماكرون ووصية ديغول

00:51 صباحا
قراءة دقيقتين

مفتاح شعيب

لم تتوقف ردود الفعل على تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حول تحقيق استقلال استراتيجي لأوروبا ينهي تبعيّتها إلى الولايات المتحدة، وبدأت تستقطب انتقادات سياسية من اليسار واليمين، وفي وسائل الإعلام الغربية، التي تهاجم في مجملها، وقليل منها يرى في أفكار ماكرون تعبيراً عن واقع دولي بدأ يتشكل على أساس تعدد القطبية.

  دعوات ماكرون ليست شذرات فكرية لسياسي مراهق، بل تنطق بلسان مشروع أوروبي يتبلور منذ عشرات السنين وقام عليه زعماء وسياسيون واستراتيجيون، من أجل أن تكون القارة الأوروبية كياناً له استقلاله وجيشه وموارده. وكانت التربة الفرنسية حاضنة تاريخية لهذه الأفكار التي تبناها الزعيم شارل ديغول، ودفعته إلى الانسحاب من حلف شمال الأطلسي «الناتو» في أواسط الستينيات احتجاجاً على واشنطن، التي أدارت إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وأرادت أن تأخذ القارة العجوز رهينة وتبسط عليها هيمنتها وتجعلها خادمة وتابعة في مواجهة الاتحاد السوفييتي أو أي قوى أخرى. وفي الظرف الحالي تسعى الولايات المتحدة إلى جعل دول الاتحاد الأوروبي بعضاً من أدواتها لمواجهة التمرد الروسي والتمدد الصيني على النظام الدولي المتداعي، وهي مساعٍ معروفة منذ عقود وباتت مفضوحة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا. ولعل من المزايا الكثيرة لأخبار الوثائق المسرّبة من وزارة الدفاع الأمريكية أنها تكشف حقيقة تعامل واشنطن مع حلفائها وازدواجية الخطاب والمعايير التي تعتمدها من أجل أن تكون مصالحها محفوظة وفوق كل شيء. وما تقوله الوثائق عن أوكرانيا، غير مستبعد أن تقوله عن أي دولة أوروبية أخرى حليفة مثل فرنسا، فأمام المصلحة الأمريكية ليست هناك حصانة لأحد.

   الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لم يقصّر في الهجوم على ماكرون، واتهمه ب «التذلل» أمام الرئيس الصيني شي جين بينغ. لكن ما خفي على ترامب أن الرئيس الفرنسي في تعامله مع الصين كان أكثر واقعية من غالبية القادة الغربيين، تماماً كما كان ديغول قبل نحو 60 عاماً يؤمن بأن مستقبل أوروبا مع الشرق، وأن على باريس أن تكون مستقلة القرار ولا تبقى تابعة لصانع القرار الأمريكي وراء المحيط الأطلسي، وكثير من الفرنسيين يستحضرون مواقف ديغول ويحفظونها كوصية.

   وبما أن التاريخ لا يعيد نفسه، وإنما أحداث تتشابه، فما تشهده الدول الأوروبية في هذا الجيل يعبّر عن أزمة كبيرة أخذت تستفحل منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، وبدء المطاردة الغربية لوهم هزيمة روسيا، في وقت يتشكل تحالف غير معلن بين موسكو وبكين ودول أخرى للحد من الاستبداد الغربي والعمل على بناء عالم متعدد الأقطاب.    

  وكما هو معلوم، يواجه الغرب هذه المخططات ويحاول إجهاضها دون أن ينجح في مساعيه. ومثلما كانت أوكرانيا أزمة مدمرة للعلاقات الدولية، فإن واقعة مشابهة قد تذهب بالأمر كله. وما يدور من تحركات عسكرية حول تايوان يؤشر على خطر جاثم في تلك المنطقة، سببه سوء التقدير الأمريكي للعواقب والاستهانة بتصميم الصين على استعادة الجزيرة، التي تعتبرها جزءاً من أراضيها. ولا يبدو ذلك اليوم بعيداً، فالوضع محتقن على أشده والنظام العالمي القديم يتقهقر، ولا من خيار غير انتظار ما يأتي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/565xukr2

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"