عادي
«فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ»

ما هذا بشراً

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين

د. سالم الشويهي

إن يوسف الشاب كان في صراع مرير مع نفسه ومع الشيطان في مشهد مراودة امرأة العزيز لكنه في النهاية حسم الأمر بكلمة نطق بها «قال معاذ الله» وبخطوات هرب بها من المعصية «واستَبَقَا البَاب». سارا فِي دربٍ وَاحد، لكِن النّوايَا مُختلِفة، فيوسف يريد الخروج فراراً من المعصية وامرأة العزيز تريد أن تسبقه لتمنعه من الخروج «وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ» لتأتي المفاجأة والتي لم تكن في الحسبان «وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ».

وهنا تَذهب السكرة وتأتي الفكرة وتتبدى المرأة المكتملة، فتجد الجواب حاضراً على السؤال البدهي الذي يطرحه الموقف فاتهمت يوسف وهي المتهمة: «قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا» واقترحت سريعاً العقاب «إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ». وبعد هذا الاتهام الباطل جهر يوسف بالحقيقة ليدافع عن نفسه «قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» مع أنه أُتهم في شرفه أجاب دون تجريح أو إساءة وإنما تبرئة لساحته.

«يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ»، ولكن تأبى سنن الله إلا أن تشيع الحقيقة المغيبة.

شاع الخبر في المدينة، وتناقل الناس وخصوصاً النساء «وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَة الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا».

وانتقل الخبر من فم إلى فم، ومن بيت إلى آخر، حتى وصل لامرأة العزيز. «فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ».

وعندما خرج عليهن يوسف، عليه السلام، أصابهن الذهول «فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ» دون شعور بالألم «وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ».

تأمل المشهد: عيون شاخصة، يد تجرح، دم ينزف، ولا ألم لشدة الجمال الذي يرونه أمامهن!

وتفسير ما حصل أن أعينهن عندما تلذذت بمنظر جمال يوسف تعطل الإحساس عندهن بكل شيء مؤلم. ولا غرابة أن يأخذ حسنه الألباب؛ إذ قَالَ النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيَ يُوسُفُ شَطْرَ الْحُسْنِ». وكان نقاء أعماقه وصفاء سريرته يضفيان على وجهه مزيداً من الجمال.

«قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ»، لكنها استهواها الشيطان وأنطقها المال والجاه والسلطان؛ فهددته وقالت بكل صلف وفجور:«وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ»، إلا أن النفوس الطاهرة تأبى الخنوع للمنكر والسقوط في حمأة الفجور والعصيان وبفكره النيّر وأصله الطيّب.

فضّل يوسف سجن الأبدان على سجن القلوب والعقول بالمحرمات فاستعان بالله «قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ»

ولم يقل: الزنا! فيوسف عفيف العرض واللسان.

«وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ»

وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه «فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

ورغم ظهور الحقيقة كالشمس في رابعة النهار ورغم أن كل الأدلة تدل على براءته إلا أنهم بعد أن قَلّبوا الأمور ورأوا أن المدينة بمن فيها تتكلم عن مراودة امرأة العزيز ليوسف لم يجدوا طريقة لإسكاتهم سوى سجنه، لتنسى القصة «ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ».

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/27xttup3

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"