عادي

يوسف الصديق

22:18 مساء
قراءة 3 دقائق
1

د. سالم الشويهي

من سنن الله تعالى أن الظلم لا يدوم، فيوسف عليه السلام وهو في السجن يحتاجون إليه وهو المغلوب على أمره في فتوى مصيرية، فيسأل الملك وهو على عرشه يوسف وهو في سجنه: «يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ» ففسر الرؤيا، عليه السلام، وقدم مع التفسير النصح وطريقة مواجهة المصاعب التي ستمر بها البلاد ويصاب بها العباد، فإن لم يعملوا بموجبها سيهلك الحرث والنسل. عندها «قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ» إلا أن يوسف النبي الكريم يقول له بكل شموخ وثقة وشرف وعزة: «ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ». ذكر النساء جملة ليدخل فيهن امرأة العزيز فاستخدم التلويح حتى لا يقع عليها التصريح؛ وذلك لحسن عشرته وأدبه. وأبى، عليه السلام، الخروج من السجن حتى تظهر براءته التامة، وهذا من صبره وعقله، فتأنى حرصاً على نقاء عِرضه وتبرئة لساحته من التهم الكاذبة ليخرج إلى المجتمع غير ملطخ بالشائعات، فيهون على الكرام أن تصاب الأجسام لتسلم العقول والأعراض.

أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لَا أُدَنِّسُهُ... لَا بَارَكَ اللَّهُ بَعْدَ الْعِرْضِ فِي الْمَالِ

أَحْتَالُ لِلْمَالِ إِنْ أَوْدَى فَأَكْسَبُهُ... وَلَسْتُ لِلْعِرْضِ إِنْ أَوْدَى بِمُحْتَالٍ

«قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ».عندئذ:«قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ» فلم تر مناصاً من الاعتراف بالحق، فالحقيقة قد تضعف.. لكنها لا تموت. «وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ» فاعتنِ جيدًا بسُمعتك لأنها ستدافع عنك في غيابك.

خرج يوسف، عليه السلام، معززاً مكرماً وزادت منزلة عند الملك عن ذي قبل ففي المرة الأولي: «قال أتوني به» وفي الثانية قال: «ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ، قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ»، فالله يُمَّكِن للصالحين إذا حَسُنَت نواياهم وصبروا على بلواهم.

لو فرج الله عن يوسف في أول ابتلائه، لما آلت إليه خزائن مصر، ‏ قد يطول عليك البلاء ليعظم لك العطاء، ‏فقد تجرع يوسف الغصص المتتابعة فلما مَثُل بين يدي العزيز عزّ مطلبه فقال: «اجعلني على خزائن الأرض»، ‏فالحكيم يصبر حتى يظفر، قيل للمهلب: ما الحزم؟ قال: تجرع الغصص إلى أن تُنال الفرص.

صار يوسف على خزائن الأرض والذين كادوا له بالأمس وألقوه في الجب وفرقوا بينه وبين أبيه وتسببوا في اغترابه عن بلده جاؤوا إليه متسولين: «فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ».

ومن ذكاء يوسف عندما أتوا بأخيه أن: «جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ» ليستبقيه معه «قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ» يعنون يوسف وكأني به، عليه السلام، مع هذا الافتراء عليه مجدداً من إخوته يستحضر الغصص المتتابعة التي حصلت له بسببهم في جميع ما أصابه.

وظلمُ ذَوِي القُرْبَى أشدُّ مَضاضةً... على المرءِ من وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّدِ

فتجرع واحتمل كذلك هذه الغصة منهم مع أنه مكين: «فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ»

ما كُلُّ نطقٍ له جوابٌ... جوابُ ما يُكره السكوتُ

أحياناً قد تسمع كلمات جارحه ممن حولك فتجاهلها وأعرض عنها، ولا تستعجل الرد، ففي الكتمان خيرٌ عظيم.

ولربما اختزنَ الكريمُ لسانَه... حَذَرَ الجوابِ وَإنّه لمُفَوَّهُ

ولربما ابتسمَ الوقورُ من الأذى... وفؤادُه من حَرِّه يَتأَوَّهُ

فنقاء القلب ليس عيبا، والتغافل ليس غباء، والتسامح ليس ضعفاً والصمت ليس خجلاً؛ بل تربية وعبادة وطاعة.

قيل ليوسف عليه السلام وهو في السجن: «إنا نراك من المحسنين»،

وقيل له وهو على خزائن مصر: «إنا نراك من المحسنين»، فالمعدن النقي لا تغيره الظروف والأحوال.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4hvj8ezf

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"