السودان ورائحة الموت

00:04 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد خليفة *

أحداث السودان زلزال مدو في طبيعته وحقيقته، سوف يترتب عليه الكثير من الآثار والجراحات والخسائر التي عانى منها، فلم يكد السودان يتعافى من استئصال نصفه الجنوبي بعد صراعات مريرة استنزفت السودان مالًا ودماءً وعتاداً، حتى انفجرت في وجهه جراح أخرى في إقليم دارفور، خلفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى والنازحين. حقب من الزمن يعاني منها الشعب السوداني في النفس والمال والعلاقات والترتيبات الأمنية والعسكرية.

 أثمرت هذه الأحداث والوقائع مزيداً من الإفقار والإحباط الاجتماعي وعدم الاستقرار السياسي؛ ما جعل الأمة السودانية في كرب حقيقي، حرب بين الشعب الواحد برية وجوية. إن ما يحدث أصبح يعكس وبلا مواربة، مثالاً حياً إلى أي مدى يمكن أن تصل وحشية ودموية الإنسان. وهنا ثمة تساؤل حارق يصرخ من أعماق كل من يشاهد مسلسل الموت الدامي اليومي: ترى أين صحوة الضمير العالمي؟ أليست هذه المشاهد كافية مع تلك الخسائر في الأرواح والممتلكات، التي لا يمكن لكائن بشري أن يتحملها؟ هل يفيق الضمير العالمي ليبادر بإيقاف آلة القتل؟

 من حقنا أن نأسى على ما يحدث للسودان من خراب ودمار، ومن حقنا أن نخاف على مستقبله. نعم إن العين لتدمع، والقلب ليحزن، لأن مكتسبات السودان ستدمر، وأيضاً قد تؤدي هذه الحرب إلى قتل الأطفال والنساء والشيوخ، والشعب السوداني حتى الآن لم يشف من تلك المصائب التي سببها له النظام السابق، ولعل أهمها إيصال الوضع الاقتصادي إلى مرحلة العجز الكامل، على الرغم من الخيرات الكثيرة التي يزخر بها هذا البلد العريق الذي استبشر خيراً بأن الحكم الجديد سيجلب له الاستقرار السياسي والاقتصادي. غير أن المرحلة الانتقالية لم تمر بسلام، فقد تعطل المسار السياسي، ولم يصل إلى مداه الذي يجمع كامل الطيف السوداني تحت مظلة حكومة واحدة تأخذ بالسودان نحو مستقبل أفضل، وبدلاً من ذلك فقد تصاعد التوتر بين رفاق السلاح وشركاء المصير وهم الجيش السوداني الذي أزاح الرئيس السابق، وحليفته «قوات الدعم السريع» التي لعبت دوراً كبيراً أيضاً في تحقيق الانتقال في الحكم.

 ويمثل الجيش قوة كبيرة في السودان منذ استقلالها، فقد خاض حروباً داخلية وقام بانقلابات متكررة، وقد تشكلت «قوات الدعم السريع» للمساعدة في ضبط الأمن في دارفور، ومن ثم تحولت إلى منظمة شبه عسكرية تعمل تحت تسلسل قيادة خاص بها. ومنذ فترة وقع سوء تفاهم بين الجانبين وتصاعد الخلاف حتى وصل إلى مرحلة الصدام العسكري.

 هذا الصراع المستجد بين الجيش و«قوات الدعم السريع» ليس أبداً في صالح السودان ولا في صالح مستقبله، بل إنه قد يؤدي إلى عواقب كارثية أهمها تعميق الانقسام بين أبناء الشعب، ما قد يؤدي إلى تشجيع النزعات الانفصالية وظهور دول متعددة جديدة. وقد سارعت دولة الإمارات إلى دعوة الأطراف المتصارعة إلى تغليب العقل والحكمة، وأعلنت في بيان لها: «تدعو دولة الإمارات كافة أطراف النزاع في السودان إلى التهدئة وضبط النفس وخفض التصعيد والعمل على إنهاء هذه الأزمة بالحوار».

 ومع الحب الكبير في قلوبنا للسودان كوطن وشعب، فإننا نرى أن السودان تتقاطع حوله مصالح دولية متضاربة، نظراً لموقعه المهم وخيراته الكثيرة، ورغم أن الصراع الحالي قد يبدو صراع مصالح آنية بين جناحي الحكم، لكن لا يمكن إغفال تنافس الأقطاب الدوليين لكسب مناطق النفوذ، أو لخلق الأزمات وبما يخدم مصالح تلك الدول. غير أن الكارثة هي أن يكون خراب السودان بأيدي السودانيين أنفسهم، أو أن تكون ثمة أطراف فيه تعتقد أنها ستحقق فوائد مما يجري، وهي بلا ريب، مخطئة، لأن الخراب لا يستثني أحداً من عواقبه. وهناك دول عربية عانت من آثار الانقسامات ودفعت ثمنها مزيداً من الفوضى، والقتل المجاني ومن دون هدف، وهي حتى اللحظة لم تستطع التخلص من عواقب ما حدث لها ولشعوبها. 

 إن السودان اليوم أمام تحدٍّ تاريخي مفصلي، وعلى قيادته، خاصة العسكرية منها، أن تعي المخاطر المحدقة، خاصة أن الحرب ستولد الدمار، وتقضي على كل ما حققته الدولة السودانية منذ استقلالها حتى اليوم، وقد تؤدي إلى شرذمة السودان وتقسيمه وهذا هو الشيء الأخطر.

 كلنا أمل في أن تتكلل جهود الدول العربية بأن يبقى السودان وطناً عزيزاً قوياً، لأنه يمثل العروبة في قلب إفريقيا، كما أن خيراته هي رديف خير للعرب كلهم. وإذا كان المجتمع الدولي في حالة غياب على مستوى مقاربة الوضع؛ فإن الدول العربية معنية ببذل كافة الجهود لإعانة الأشقاء السودانيين على تحقيق المصالحة الوطنية وإعادة الأمن للبلاد كمقدمة للحل السياسي بعيد المدى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ycx6wpnj

عن الكاتب

إعلامي وكاتب إماراتي، يشغل منصب المستشار الإعلامي لنائب رئيس مجلس الوزراء في الإمارات. نشر عدداً من المؤلفات في القصة والرواية والتاريخ. وكان عضو اللجنة الدائمة للإعلام العربي في جامعة الدول العربية، وعضو المجموعة العربية والشرق أوسطية لعلوم الفضاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"