المخاطر السياسية للصراع بين الأجيال

00:44 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تؤثر التصورات والأحكام التي يبلورها كل جيل عن الأجيال الأخرى، بشكل لافت على العلاقات المجتمعية، وعلى الممارسات السياسية والإعلامية، وحتى الاقتصادية لدى الفاعلين الرئيسيين في الدول، على الرغم من اختلاف التشريعات والمرجعيات الثقافية والفكرية للأمم. ويشير جان فرانسوا دوروتيه إلى أن مفهوم الجيل يسمح بالجمع بين من عاشوا الحدث نفسه، أو السياق التاريخي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي نفسه، حيث يبني كل جيل متحفه المخيالي بمساعدة رموز وأشياء شعائرية. ويمكن أن يكون للمفهوم دلالات متعددة، فهو يرتبط أحياناً بالعصر، أو بالتسلسل العمري، وأحياناً أخرى بالأمرين معاً، ولا يطرح المفهوم في الإطار العائلي أي إشكال بالنظر إلى تسلسل العلاقة وتواترها بين الأبناء والآباء والأجداد.

 ويؤكد جيل رويت في هذا السياق، أن الأجيال ليس لديها التاريخ نفسه، وإذا كانت القيم المشتركة لا تتغيّر إلا قليلاً، إلاّ أن سلّم هذه القيم يتطور بين السكان بناء على التغيرات التي تحدث على مستوى الذهنيات والثقافات، وتكمن المشكلة في أن تعميم الخاصية العمرية والتمثلات المتعلقة بالأجيال بدأ يأخذ في الزمن الراهن شكل إنتاج ونشر الأفكار النمطية التي من شأنها أن تقود إلى ممارسات وسلوكات قائمة على الإنجاز الذاتي، من قبيل «ما دام الأشخاص الذين ينتمون إلى جيلي هم هكذا، عليّ إذن أن أكون متطابقاً معهم». ونجد أن هذه الممارسة المعيارية يعمل بعض الفاعلين الاقتصاديين على ترسيخها وتطويرها، وبالتالي، فإن الأفكار النمطية المرتبطة بالجيل، التي يتم تصورها كأنها بديهيات مبرهن عليها، تفرض نفسها بدعوى حجيّتها العلمية.

  ومن الواضح أن التركيز على الاختلاف بين الأجيال ليس أمراً مستحدثاً، لكن الاستعمال الذي أضحى يخضع له هذا الاختلاف الطبيعي يتجاوز في الكثير من الأحيان المستوى المتعارف عليه، ويقفز نحو سجلات تداولية غير مألوفة؛ فمن البديهي مثلاً ألا يكون للأجيال التجارب نفسها، وأن تخضع القيم المشتركة لتحوّلات سريعة، غير أن ما يصعب فهمه هو أن يتم استثمار الاختلاف لوضع حواجز بين جيل الأبناء والآباء، ليصبح النقاش بينهما أشبه ما يكون بحوار الطرشان، بعدما بالغ كل طرف في إنتاج ونشر الأفكار النمطية حول الطرف الأخر، بالشكل الذي أصبح فيه كل جيل مجبراً على أن يتطابق سلوكه وتمثلاته الذهنية مع الجيل الذي ينتمي إليه.

 ويمكن القول اعتماداً على ملاحظات جيل رويت، إن تحوّل الأفكار النمطية الناجمة عن صراع الأجيال إلى ما يشبه الحقائق، بات يرسّخ سوء الفهم ويعطِّل الحوار بين الأجيال، وبخاصة عندما يتم تحويل بعض الشعارات والاستعارات بشأن الاختلافات الطبيعية بين الأجيال إلى مستوى المفاهيم الإجرائية؛ ولا غرو إذن، أن الاختلافات بين شباب اليوم والجيل الذي سبقهم، تتمثل في الكفاءات والمهارات والقدرات والمعارف الملائمة لمحيط البيئة الرقمية الجديدة، ويتحتم من ثم على من هم أكبر سناً أن ينتقلوا إلى هذا العالم الجديد؛ حتى إن كان علينا أن نعترف بأن الانخراط المبكّر في هذا العالم الجديد لا يمثل امتيازاً في حد ذاته، ولا يمكن أن يكون ذريعة لتنمّر جيل على آخر، لأن تبلور القدرات الإدراكية للإنسان يظل مرتبطاً بأساليب التعليم الكلاسيكية المستندة إلى عبقرية اللسان الطبيعي.

  إن تعاقب الأجيال وُجد أصلاً لكي يكون بمثابة تقدم وتطور في الخبرات من جيل إلى آخر ولكي يخلف، من ثم، الجيل الجديد الجيل الذي سبقه في سياق ديناميكية اجتماعية قائمة على التفاعل والتكامل من دون أن يؤدي ذلك إلى انقسام اجتماعي، أو إلى تهميش فئات عمرية بعينها؛ حتى إن كان علينا أن نعترف أن الكفاءات، بما في ذلك التكنولوجية منها، ليست حكراً على جيل بعينه، وأن التفاوت الاجتماعي بين الأفراد يلعب دوراً لا يقل خطورة في فقدان التوازن داخل المجتمع. ويقودنا كل ذلك إلى استنتاج مفاده أن الصراع بين الأجيال يمكنه أن يُفرز أيضاً العديد من المخاطر السياسية، لاسيما عندما يتم توظيف الخطاب المتعلق بجيل الشباب في أتون المواجهات السياسية، إذ إن القدرة على تسيير الشأن العام لا يرتبط بالانتماء إلى فئة عمرية فقط، بقدر ما يتعلق بمسارات التفاعل بين الأجيال، نظراً لحاجة المجتمع، ومعه الدول، لامتزاج النشاط والطاقة المتوهجة من جهة، مع الخبرة والحكمة، من جهة أخرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2923xe4a

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"