تآكل الديمقراطية من الأعلى

القادة والمواطنون وتحدي الشعبوية في أوروبا
22:31 مساء
ترجمة وعرض:
نضال إبراهيم
قراءة 8 دقائق
1
ترامب وفيكتور أوربان
1
قادة اليمين في أوروبا
1
تظاهرة بولندية في عيد العمال

عن المؤلف

الصورة
1
لاري بارتلز
لاري م. بارتلز أستاذ جامعي في قسم العلوم السياسية والقانون بجامعة فاندربيلت. له عدد من المؤلفات

أثار الانفجار الكبير في الدعم للأحزاب الشعبوية اليمينية، مخاوف واسعة النطاق من أن تواجه الديمقراطية الليبرالية أسوأ أزمة لها منذ الثلاثينات؛ إذ يكشف الكتاب أن الأزمة الحقيقية لا تنبع من جمهور شعبوي متزايد؛ بل من القادة السياسيين الذين يستغلون أو يسيئون إدارة نقاط الضعف المزمنة للديمقراطية.

يحلل لاري بارتلز في هذا الكتاب الصادر عن مطبعة جامعة برينستون (4 إبريل/ نيسان 2023)، باللغة الإنجليزية في 280 صفحة، انتشار الموجة الشعبوية بين الرأي العام الأوروبي المعاصر، يجد أنه في الوقت الذي كان هناك دائماً كم هائل من المشاعر الشعبوية، لم يكن الأوروبيون أقل ثقة في ساستهم وبرلماناتهم، مما كانوا عليه قبل عقدين، ولم يقل حماسهم تجاه التكامل الأوروبي، ولا حتى رضاهم عن أساليب الديمقراطية، لكن مع ازدياد الدعم الانتخابي للأحزاب الشعبوية اليمينية بشكل متواضع فقط، أشار هذا الأمر إلى النجاحات الفريدة لرجال الأعمال الشعبويين، وإخفاقات الأحزاب الكبرى، والضجيج الإعلامي. يمكن القول إن أكثر الأمثلة الواقعية في أوروبا عن التراجع الديمقراطي، خاصة في المجر وبولندا، لم تحدث لأن الناخبين أرادوا الاستبداد؛ بل لأن الأحزاب التقليدية المحافظة، بمجرد انتخابها، اغتنمت الفرص، لترسيخ نفسها في السلطة.

 أزمة ديمقراطية

 يقول المؤلف: «هناك شعور واضح بالأزمة في الديمقراطيات الغربية، بدءاً من صعود الأحزاب الشعبوية اليمينية في عدة أجزاء من أوروبا، وتآكل الضوابط والتوازنات الدستورية في المجر وبولندا، والتصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عام 2016 في بريطانيا، وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، والتحول المعادي للديمقراطية. أثار الحزب الجمهوري الأمريكي تحت قيادته انزعاجاً كبيراً بشأن الوضع الحالي للديمقراطية وآفاق مستقبلها. كما لم يتردد القادة السياسيون والقادة المحتملون في تأجيج تصورات الأزمة لأجل أهدافهم الخاصة، فقد استقبل نائب رئيس الجبهة الوطنية اليمينية في فرنسا، آنذاك، انتخاب ترامب بتغريدة منتصرة: «عالمهم ينهار، عالمنا يُبنى». والأخطر من ذلك أن رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان أعلن أن «عصر الديمقراطية الليبرالية قد انتهى».

 ويضيف: تشكّل فكرة أن الديمقراطية تمر بأزمة مصدر جذب مقنع للكثير من الكتابات السياسية الحديثة. في الصفحات الافتتاحية من كتابه «القارة المنقسمة: أزمات أوروبا ومصير الغرب»، حذر مراسل أوروبي سابق لصحيفة «واشنطن بوست» قائلاً: «بعد ربع قرن فقط من النظام الليبرالي الدولي للأسواق المفتوحة، وحرية التعبير، وانتصار الانتخابات الديمقراطية على قوى الشيوعية، يبدو أن الديمقراطيات الغربية الآن في خطر الانهيار، لأن رد الفعل العنيف ضد العولمة يثير المعارضين الغاضبين ضد الهجرة والتجارة الحرة والتسامح الثقافي».

 ويشير المؤلف إلى أن الوافدين السياسيين يقتحمون مسرح السياسة. ويطالب الناخبون بسياسات لم يكن من الممكن تصورها حتى يوم أمس. تحوّلت التوترات الاجتماعية التي كانت مخفية لفترة طويلة إلى انفجارات مرعبة. نظام الحكم الذي بدا غير قابل للتغيير يبدو وكأنه قد ينهار. هذه هي اللحظة التي نجد أنفسنا فيها الآن. كتب أحد أبرز خبراء السياسة المقارنة في العالم كتابه «أزمات الديمقراطية» «شيء ما يحدث». تتفجر المشاعر «المناهضة للمؤسسة الحاكمة» و«مناهضة النظام» و«مناهضة النخبة والشعبوية» في العديد من الديمقراطيات الناضجة... كما أن الثقة في السياسيين والأحزاب والبرلمانات والحكومات آخذة في الانخفاض.

 مقياس الأداء الديمقراطي

 يرى المؤلف أن كل هذا يبدو نذيراً. ولكن، على الأقل فيما يتعلق بمواقف وتفضيلات الأوروبيين العاديين، فليس ثمة ما هو صحيح. بشكل عام، كان الأوروبيون يشعرون بالرضا تماماً عن الديمقراطية في عام 2019 كما كانوا قبل 15 عاماً. ظلت الثقة في البرلمانات الوطنية والسياسيين من دون تغيير تقريباً. لقد كانوا متحمسين كما كانوا من قبل لمشروع التكامل الأوروبي. وحينما تصدّر «المعارضون الغاضبون من الهجرة» عناوين الأخبار، أصبحت مواقف معظم الأوروبيين تجاه المهاجرين والهجرة أكثر دفئاً، وليس أكثر عدائية. في هذه النواحي وغيرها، فإن الحكمة التقليدية حول «أزمة الديمقراطية» في أوروبا المعاصرة تتعارض بشكل صارخ مع الأدلة المستمدة من استطلاعات الرأي العام.

 يوضح الكاتب أن أحد أهداف هذا الكتاب يتمثّل في توثيق الهوة بين الصورة المزعجة للديمقراطية في أزمة والحقيقة الأكثر واقعية للرأي العام الأوروبي المعاصر، ويؤكد أن الهدف من هذا الكذب ليس الإيحاء بأن كل شيء على ما يرام مع الديمقراطية الأوروبية. أعتقد أن «الانهيار» مبالغ فيه إلى حد كبير. القضية الأعمق هنا هي أن التركيز على الرأي العام كمقياس للأداء الديمقراطي هو في حد ذاته مضلل بشكل أساسي، مضيفاً: حتى عندما لا تحدد تفضيلات المواطنين السياسة بشكل مباشر، فمن المفترض بطريقة ما أن يكونوا القوة الأساسية التي تحرك السياسات الديمقراطية. تشير أسطورة حكم الشعب إلى أن المواقف السيئة أو الاختيارات المتهورة أو عدم الاجتهاد الكافي في الوفاء بالتزامات المواطنة، يجب أن تشكل أزمة ديمقراطية. وعلى العكس من ذلك، إذا تعثرت الديمقراطية، فإن تآكلها أو انهيارها يجب أن يعزى بطريقة ما إلى أخطاء الرأي العام. بغض النظر عما إذا كان المنطق يمضي قدماً، من تقلبات الرأي العام إلى عواقبها المفترضة، أو إلى الوراء، من فشل المؤسسات الديمقراطية إلى أسبابها المفترضة، فإن الارتباط المنطقي الذي يحكم العلاقة بين الرأي العام وأزمات الديمقراطية توفره «النظرية الشعبية» التي عبر عنها إبراهام لنكولن «حكومة الشعب، من الشعب، لأجل الشعب».

 ويضيف المؤلف: «قد يُطلق على وجهة النظر البديلة المطروحة هنا وصفاً نخبوياً للأزمة الديمقراطية. أصبح مصطلح «النخبوي» مصطلحاً مهيناً في الخطاب الحديث، لا سيما في سياق المناقشات المتعلقة بالديمقراطية. هدفي من استخدامه هنا ليس الخوض في مناقشات معيارية معقدة بشأن الأدوار المناسبة للقادة والمواطنين في السياسة الديمقراطية؛ بل إنه ببساطة للتغلب على الانفصال الملحوظ للرأي العام العادي عن التطورات التي يُنظر إليها عادةً على أنها مؤشر على (أزمة الديمقراطية) في أوروبا المعاصرة، والدور الحاسم للقيادة السياسية في المحافظة على المؤسسات والإجراءات الديمقراطية أو تفكيكها».

 يلخص المؤلف في هذا العمل الاتجاهات العامة في الرأي العام الأوروبي من عام 2002 حتى عام 2019، مع التركيز بشكل خاص على المواقف التي تُعد عادةً من أعراض «أزمة الديمقراطية»، بما في ذلك السخط الاقتصادي، والكراهية تجاه الهجرة والتكامل الأوروبي، والاستقطاب الأيديولوجي، وعدم الثقة في سياسة النخب، وعدم الرضا عن طريقة عمل الديمقراطية نفسها. يعاين المؤلف تأثير هذه المواقف في دعم الأحزاب الشعبوية اليمينية، والتي تبين أنها كبيرة. كما يستكشف دورها في إحداث تآكل كبير للديمقراطية في المجر وبولندا، والذي تبين أنه متواضع بشكل ملحوظ.

 يعتمد المؤلف في بياناته حول الرأي العام الأوروبي بشكل أساسي من المسح الاجتماعي الأوروبي، وهو تعاون أكاديمي يتبع وجهات النظر السياسية والاجتماعية في معظم البلدان الأوروبية منذ عام 2002. يركز على 23 دولة، تم إجراء مسوحات لكل منها على الأقل أربع مرات؛ تم تمثيل 15 في جميع الجولات التسع للمسح، ما يوفر قراءات نصف سنوية تقريباً للآراء من عام 2002 حتى عام 2019.

 خلافات سياسية وثقافية

 يرى الكاتب أن الكثير مما كُتب عن «أزمة الديمقراطية» في أوروبا المؤقتة، يعزو التداعيات السياسية للأزمة الاقتصادية العالمية إلى انهيار وول ستريت في عام 2008. وقد دفع حجم الأزمة الاقتصادية العديد من المراقبين إلى رسم أوجه تشابه بين التطورات السياسية المعاصرة، وتلك التي حدثت في الثلاثينات، بما في ذلك صعود الشعبوية في الولايات المتحدة والفاشية في أوروبا. على سبيل المثال، أشار مات أوبراين من صحيفة «واشنطن بوست» إلى أنه «لا ينبغي أن يكون مفاجئاً للغاية أن أسوأ أزمة اقتصادية منذ الثلاثينات أدت إلى أسوأ أزمة سياسية داخل الديمقراطيات الليبرالية منذ الثلاثينات». كما عبّر جون جوديس في كتابه الشهير «الانفجار الشعبوي» عن ذلك في العنوان الفرعي «كيف غيّر الكساد الكبير السياسة الأمريكية والأوروبية». كما أشار تقرير آخر عن الصعود العالمي للشعبوية إلى أن «الانكماش المالي العالمي المطول، وارتفاع البطالة في عدد من المجالات، وفقدان الثقة في مشاريع النخبة المتصورة مثل الاتحاد الأوروبي، تساعد على تأجيج نيران الشعبوية، ما يهدد بأزمة في الإيمان بالديمقراطية؛ حيث يشعر المواطنون بخيبة أمل متزايدة في السياسة السائدة».

على الرغم من هذا التحذير، يرى الكاتب أنه قد تبين أن «(أسوأ أزمة سياسية) تشهدها أوروبا منذ ثلاثينات القرن العشرين كانت أكثر اعتدالاً، وأقصر، وأكثر محلية، ومختلفة من حيث النوع عن صعود الفاشية. تم تغيير السياسة الأوروبية، لكنها بالكاد تغيرت - وحتى التعديلات كانت في كثير من الأحيان مؤقتة إلى حد ما. هذا صحيح بشكل خاص للتحولات في الرأي العام. يقسم توقيت الأزمة الاقتصادية الفترة التي تغطيها تحليلاتي تقريباً إلى ثلاث فترات فرعية متميزة: فترة ما قبل الأزمة (من 2002 حتى 2007)، وفترة الأزمة (من 2008 حتى 2013)، وفترة ما بعد الأزمة ( من 2014 حتى 2019). وبالتالي، في كثير من الحالات، سيكون من المفيد وصف الاستقرار أو التغيير في الرأي العام أو في أسس الرأي العام، عبر هذه المحاور الثلاثة، مع مراعاة خشونة الانقسام والاختلافات في التوقيت الدقيق ومدة الأزمة الاقتصادية في أجزاء مختلفة من 17 أوروبا. بتطبيق هذه الفترة الزمنية، سنجد عموماً أن الرأي العام قد شهد تحولاً إلى حد ما أثناء الأزمة، لكنه عاد لاحقاً إلى أنماط ما قبل الأزمة».

 في الفصل الثاني، يستعرض المؤلف بإيجاز التطورات الاقتصادية والسياسية التي شكلت «أسوأ أزمة اقتصادية منذ ثلاثينات القرن الماضي»، بما في ذلك انهيار الترتيبات المالية المبنية على الإقراض العقاري عالي المخاطر، والركود العالمي الناتج، وأزمة الديون السيادية الناجمة عن تأثير هذا الركود في الميزانيات العمومية للحكومات والمؤسسات المالية، ونضالات القادة السياسيين الأوروبيين للرد على تلك الضربات الاقتصادية. يقول عن ذلك: «على الرغم من شدة الانكماش الاقتصادي، كان المزاج الاقتصادي الأوروبي مرناً بشكل مدهش. بحلول 2014-2015، كان متوسط الرضا عن الاقتصاد أعلى مما كان عليه قبل بدء الأزمة، واستمر إلى تحسن كبير حتى ظهور جائحة كوفيد-19 في عام 2020. كانت هناك فترات من الألم الاقتصادي الشديد والممتد؛ لكن بالنسبة لمعظم الأوروبيين، تم احتواء الأزمة بنجاح».

اعتبر العديد من المراقبين أزمة اليورو على أنها فشل الاتحاد الأوروبي في المقام الأول. أشوكا مود، خبير اقتصادي دولي لديه خبرة في صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، انتقد «استجابة السياسة النقدية والمالية المترددة للقادة الأوروبيين للأزمة المالية العالمية» و«أخطاء السياسة الكارثية في التعامل مع الأزمة المالية العالمية». ووفقاً للعالمة السياسية شيري بيرمان، فإن «طبيعة الاتحاد الأوروبي التكنوقراطية وليس الديمقراطية ولدت رد فعل عنيفاً ضد الاتحاد الأوروبي؛ حيث أصبح مرتبطاً بالمشكلات الاقتصادية بدلاً من الازدهار». ولكن هنا أيضاً، يرى الكاتب أن استطلاعات الرأي العام تكشف عن أدلة قليلة بشكل ملحوظ على وجود أزمة. انخفض الدعم العام للتكامل الأوروبي بشكل متواضع فقط في أعقاب أزمة اليورو، وبحلول عام 2019 كان أعلى من أي وقت منذ عام 2004 على الأقل. وبولندا والمجر - كانت تلك الأماكن التي شهدت مستويات غير عالية عادة من النمو الاقتصادي، ما يشير إلى أن أهم التحديات التي تواجه الاتحاد الأوروبي لم تكن متجذرة في «المشكلات الاقتصادية»، ولكن في الخلافات الثقافية والسياسية.

 في الفصل الثالث، يستكشف المؤلف تداعيات الأزمة الاقتصادية على دولة الرفاه الأوروبية المؤقتة. ويقيّم تأثير الأزمة في أنماط الإنفاق الاجتماعي، مع التركيز بشكل خاص على سياسات التقشف المفروضة أو المستوحاة من الترويكا في اليونان وإسبانيا وأيرلندا. كما يستكشف تأثير أزمة اليورو في تصورات المواطنين لجودة الخدمات الاجتماعية وفي الرضا العام عن حياتهم. والمثير للدهشة أن الأوروبيين كانوا يشعرون بالرضا بشكل ملحوظ عن جودة الخدمات الصحية والتعليم والحياة ككل في السنوات التي أعقبت أزمة اليورو أكثر مما كانوا عليه قبل أن تبدأ. يبدو أن هذه التحسينات في الرفاهية الذاتية ترجع، جزئياً على الأقل، إلى الزيادة التدريجية في الإنفاق الاجتماعي الحقيقي، على الرغم من الضغوط التي فرضتها الأزمة المالية على الميزانيات الوطنية.

 في ضوء هذه التحسينات في الرفاهية الذاتية، ربما لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أن الدعم العام لدولة الرفاه ظل ثابتاً. لم تنتج أزمة اليورو أي تحول ملموس في أيديولوجية اليسار واليمين أو في دعم إعادة توزيع الدخل. أسفرت الأسئلة الأكثر تفصيلاً المتعلقة بالمسؤوليات الاجتماعية الحكومية المحددة وبرامج الإنفاق عن قراءات متطابقة تقريباً للرأي العام في عام 2016 كما كانت في عام 2006. وكان أكبر تحول متواضع في الرأي على مدار هذا العقد المضطرب هو انخفاض الدعم العام لخفض الإنفاق الحكومي كوسيلة لدعم الاقتصاد. من الناحيتين الوظيفية والسياسية، خرجت دولة الرفاه الأوروبية من أزمة اليورو في حالة جيدة بشكل ملحوظ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن المترجم

نضال إبراهيم
https://tinyurl.com/4w6rwyfd

كتب مشابهة

1
تياجو فرنانديز
1
بول هانزبري
1
أنجيلا بورن
1
كجيل أوستبيرج

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

المزيد من الكتب والكتاب

خلال قمة أوروبية سابقة
مارك ساكليبن
تغير المناخ يزيد من الهجرات في العالم
درو بيندرجراس وتروي فيتيس
1
زاندر دنلاب
1
ميريام لانج وماري ماناهان وبرينو برينجل
جنود في كشمير
فرحان م. تشاك