جنرال الزمن في عالم السياسة

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

دينامية عامل الزمن في السياسة، ومن ضمنها الحرب، بوصفها استمراراً للسياسة، بحسب المؤرخ والقائد العسكري الألماني كارل كلاوزفيتز (1780-1831)، تبدو معقدة للغاية، إذ لا يمكن التنبؤ بالطريقة والنتائج الناجمة عن دخول عامل الزمن في الخطط الاستراتيجية السياسية والعسكرية، مع أن أية استراتيجية، مطلق استراتيجية، لا تأخذ هذه السمة، من دون عامل الزمن نفسه، فكل ما هو استراتيجي قائم بالضرورة على ما يحدث من تراكمات، خلال زمن محدّد، ومع ذلك فإن تفاعل الزمن مع العناصر المفترضة في أية استراتيجية لا يمكن التكهّن به بدقة.

 في أفغانستان، عوّلت واشنطن على القدرات العسكرية فائقة التطوّر للجيش الأمريكي، والتي سرعان ما بدأت تفقد تلك القدرات أهميتها شيئاً فشيئاً، فقد كانت هناك عوامل أخرى في الميدان، منها جنرال الزمن، الذي كان أشدّ قوة من التكنولوجيا الأمريكية، وباعتراف الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، فإن «الاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان فشلت بعد 20 عاماً، والتكنولوجيا وحدها لم تكن قادرة على حسم المعركة»، وهذا الفشل، لعب فيه عامل الزمن دوراً أساسياً، إلى جانب عوامل أخرى، لا علاقة لها بالتفوّق التكنولوجي.

 من ميّزات عامل الزمن أنه عنصر احتمالي وسط عوامل عديدة أقل احتمالية، خصوصاً أن التأثيرات والتحوّلات التي يحدثها القرار السياسي أو العسكري تحدث أثناء الزمن، وهي إن كانت تحدث في لحظة زمنية ما، معروفة الإحداثيات، إلا أنه لا يمكن توقع مساراتها، ففي آلة الزمن، لا تتطابق النتائج دوماً مع المعطيات، إذ يفرض الزمن منطقه الاحتمالي الخاص على القوى الموجودة في التفاعل، ويغيّر من طبيعتها، وأحياناً يحوّلها إلى النقيض كلّياً.

 الفعل وردّ الفعل في السياسة، يأخذان بالحسبان عامل الزمن، ففي منطق الحرب، يسعى المبادر إليها لحسم المعركة بشكل خاطف، معوّلاً على تفكّك الخصم المفاجئ أمام القوّة المفرطة، بينما يعوّل الطرف المدافع على امتصاص الضربات الأولى، واستنزاف الخصم، وفي منطق الطرفين، المهاجم والمدافع تعويل كبير على عامل الزمن، الأول يريد تكثيف الزمن وتأبيده في لحظة واحدة، والثاني يسعى إلى بسط الزمن وتمديده، وهكذا، فإن ما من سياسة أو حرب بلا فلسفة واستراتيجية لا تقوم على رؤية وتوظيف لعامل الزمن.

 في الحرب الروسية الأوكرانية، سنجد كيف لعب عامل الزمن دوراً أساسياً في إبراز مشكلات لم تكن موجودة في بداية الحرب، خصوصاً في التمرّد الأخير لمجموعة «فاغنر» غير النظامية، وهو أمر لم يكن ليحدث لو أن القوات العسكرية الروسية تمكّنت من حسم المعركة في أيامها أو أسابيعها الأولى، لكن عدم إمكانية الحسم المبكر، أعطى هذه المجموعة أهمية خاصّة في المعارك، جعلت قائدها يفغيني بريغوجين يرى في نفسه ندّاً للقيادة العسكرية، وهذا التطوّر، وبغض النظر عن دلالاته أو حسمه السريع، يفصح عن الاحتمالات العديدة، وحالات عدم اليقين، التي تحدث بفضل ما يتيحه عامل الزمن من ممكنات.

 في العلاقات الدولية، وخصوصاً بما يتعلق بالقرارات الصادرة عن مجلس الأمن، بخصوص عدد كبير من الدول، فإن الأنظمة السياسية تراهن على عامل الزمن للتقليل من الأثر المباشر للقرارات ضدّها، وجعلها قرارات شكلية، خصوصاً أن الغالبية العظمى من تلك القرارات لا تمتلك صفة الإلزام، ولا توجد آليات لفرضها على الحكومات، ما يجعلها تذوب في دوامة الزمن، وتصبح من الناحية العملية بلا أية قيمة تذكر.

 يتيح عامل الزمن إمكانات هائلة لإدخال عناصر جديدة ومؤثرة للمعادلات السياسية، من شأنها أن تغيّر من موازين القوى، فيحدث مثلاً أن يتحوّل عنصر فعّال لدى طرف ما إلى عنصر مضاد ومعيق، وبالتالي خلط الأوراق، وتحويل ما كان يعمل لمصلحة الخصم إلى عبء عليه، بل وإعادة تركيب المشهد الأخلاقي لمجمل الصراع السياسي نفسه، إذ إن التمسّك بقيم معينة أثناء الصراع مرهون بعوامل عديدة، وما أن تتغيّر بعض العوامل، حتى تخرج تلك القيم عن مسارها، وقد تنزلق بفعل الضغوط إلى ما يناقضها شكلاً ومضموناً، ما يسهم بشكل متواصل في تغيير سردية الصراع نفسها، بل وربما تغيير التحالفات التي كانت قائمة في بدايات الصراع.

لكن، هذه القوة الاحتمالية الهائلة للزمن ليست متفلّتة من أي شروط، فخاصيّتا التكثيف والتمدّد تتفاعلان مع عناصر أخرى لا تقلّ أهمية، من مثل المعلومات والتواصل والأيديولوجيا والإدارة، والتي شهدت أيضاً جملة من التحوّلات الكبيرة في العقود الثلاثة الأخيرة، والتي تدفع إلى إعادة قراءة دور الزمن نفسه في ضوء هذه التحوّلات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdyaxhpu

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"