أوروبا العجوز وعورات التاريخ

00:37 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

ما نتابعه اليوم من أحداث في أوروبا ليس سوى حلقات جديدة في مسلسلات ممتدة، وعابرة للزمن، بدأت منذ عقود، بل قرون، ولن تتوقف إلا بعد أن تطهّر أوروبا نفسها من دنس المراحل الاستعمارية، التي نهبت خلالها ثروات دول، واستباحت شعوباً، واعتبرت أن أرض هذه الدول ملك لها، وأهلها عبيد لديها، وبعد أن تنقّي ثقافتها من العنصرية والتمييز، ما يستلزم تغيير الراسخ في عقول ووجدان بعض فئاتها الشعبية بأفضلية الإنسان الأبيض ععلى غيره من البشر، وتستبدل مناهجها الاستعلائية في التعامل مع الآخر، وتتوقف عن استغلال ذريعة حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير في زعزعة استقرار الدول وأمان الشعوب، والنيل من العقائد «المغضوب عليها»، واستيعاب اختلاف الآخر، واحترام نهجه وثقافته وعقيدته، وتستقل بإرادتها وقرارها عن السيد الأمريكي. 

 يصفون أوروبا بأنها القارة العجوز، والعجوز دائماً حكيم، يستوعب الاختلاف، ويحترم الآخر، وينشر التسامح ويرفض الكيل بعدة مكاييل، ولكن العالم يعاني من نقص حكمة أوروبا، التي حولتها إلى قارة متعثرة، مأزومة، عاجزة عن نشر قيم التعايش بين مواطنيها ذوي الأصول المتنوعة، وفاشلة في دمج المهاجرين الذين فتحت لهم أبوابها ومنحتهم الجنسية. 

 النتيجة أزمات تلاحق أزمات، ومشاهد متداولة على الشبكة العنكبوتية تجرح مشاعر الملايين حول العالم، وسلوكات عنصرية تفجّر غضباً يحرق مدناً، ويحطّم ممتلكات، ويعتدي على العام، والخاص. 

 العجوز لن يعود شاباً فتياً يقاتل على جبهات عدة، ليحقق أطماعه، ويستعمر مثل الماضي، ولكنه يمكن أن يؤتى حكمة تنجيه من شرور نفسه، وعورات تاريخه. وأوروبا العجوز اليوم، أصبحت مثل الرجل المريض معدوم المناعة، العاجز عن استيعاب دروس التاريخ وحقائق الحاضر، كانت الأكثر خسارة من وباء كورونا، والأكثر خسارة من الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا، ورغم ذلك فهي الأكثر انخراطاً فيها ودعماً للطرف الأوكراني بالسلاح والمال، والأكثر تلبية للمطالب الأمريكية حتى لو كانت غير عادلة. 

 وخلال الأيام الماضية، أوجعتنا جميعاً مشاهد الغضب التي أحرقت قلب فرنسا، وساهمت في تخريب اقتصادها بسبب تهور شرطي، تعامل مع شاب من أصل جزائري تجاوز قوانين السير، بالسلاح ليرديه قتيلاً، ورغم أن القوانين الفرنسية تناهض التمييز والعنصرية، فإن الدولة الفرنسية مدعوة للبحث عن أساليب جديدة تساهم في زرع الثقة لدى مواطنيها، وتشعرهم بأنهم سواء، فالمتظاهرون غوغائيون، كما أن عناصر الشرطة التي تفرق بين الناس، حسب عرقيتهم وديانتهم ولونهم، أيضاً غوغائيون. 

  في السويد حدث آخر مختلف، أساء لمليارَي مسلم حول العالم، لم يرتكبه أوروبي أصيل، ولكن ارتكبه لاجئ عراقي، اعتقد أن حرية التعبير في السويد تكون أحياناً مطلقة، وأحياناً محدودة، وهي في ما يتعلق بازدراء الدين الإسلامي مطلقة تتيح لمن يشاء تدنيس وحرق القرآن الكريم، ولكنها محدودة ومقيدة إذا تعلق الأمر بأمور أخرى، مثل «معاداة السامية»، واحترام «المثلية». قام بتدنيس كتاب الله وحرقه بتصريح رسمي من الشرطة، وبعد أن اجتاح الغضب العالم الإسلامي تراجعت الحكومة خطوتين إلى الخلف، لتدين هذا الفعل الشنيع الذي صرّحت له من قبل. 

 ما ارتكبه الضّال العراقي في السويد ليس أول، ولن يكون آخر الانتهاكات التي تحدث أوروبياً في حق الإسلام، فهو ليس سوى تقليد لأفعال سابقة ارتكبها أوروبيون، واستحوذ بعضهم بها على إعجاب الناخبين ليرفعهم إلى البرلمان، ويرفع شعبية أحزابهم، وهو فعل تكرر في أكثر من دولة أوروبية. 

هذا لا ينفي أن عدداً من القادة والدبلوماسيين الأوروبيين يرفضون التجاوز في حق الآخر، ويبدون الندم على ما ارتكبته دولهم في حق دول أخرى، وليت اعتذار ملك هولندا مؤخراً، عما ارتكبه أسلافه، وغيرهم من ملوك وقادة دول أوروبية، من جرائم واستعباد لشعوب مستعمراتهم على مدى 250 عاماً، يكون محفزاً للآخرين ليسلكوا سلوكه، ويكون دافعاً لكل أوروبا لتجريم التجاوز في حق الآخر، وحافزاً لتخلي العرق الأبيض عن غروره الوهمي ليكفّ عن خلق مشاكل، وافتعال أزمات ستحرق بلاده، وتزيد الكراهية والغضب حول العالم

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yf3ed2vn

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"