فرنسا في جولة حرب أهلية

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

مشاهد آلاف الشبان المتمرّدين وهم يخربّون ممتلكات عامة وخاصّة، وينهبون المحال التجارية الفاخرة، ويضرمون النار في أبنية حكومية، ليست مجرّد حالة غضب عابرة في بلد أوروبي، مثل فرنسا، له تاريخ طويل من الإضرابات العمّالية والطلابية، واحتجاجات على سياسات الدولة، فما يميّز الحالة الراهنة أنها أيقظت مكامن الغضب عند جيل كامل من الفرنسيين من أصول مهاجرة، نشأوا في ضواحي المدن الكبرى، خصوصاً باريس، من دون أن تصبح المواطنة الموجودة في القوانين الوطنية حقيقة معيشة.

 مقتل الشاب نائل مرزوق على يد شرطي مرور، ليست إلا واحدة من الحوادث التي تكررت في العام الأخير، وضحيتها مواطنون من أصول غير فرنسية، على أيدي أفراد من الشرطة. وبغضّ النظر عن تفاصيل كل حادثة على حدة، إلا أن المؤشرات العامّة تظهر مدى الانقسام داخل المجتمع الفرنسي من جهة، وبين الدولة ومجتمع المهاجرين من جهة ثانية، كما تظهر إشكاليات الاندماج في المجتمع الفرنسي، خصوصاً أن الشاب نائل، وأترابه، هم من أبناء الجيل الرابع المهاجر، ومن مواليد فرنسا، ويدرسون في مدارسها، التي يفترض فيها أنها مدارس علمانية متشدّدة، نظراً لكون النسخة الفرنسية من العلمانية هي الأكثر تشدّداً في العالم.

 نحو ثلث السكان في فرنسا، ما دون 60 عاماً، هم من أصول مهاجرة، و40% من الأطفال دون سن الرابعة ليسوا فرنسييّ الأصل، ما يعني أن المجتمع الفرنسي الحالي هو مجتمع قائم على الهجرة بشكل رئيسي، وأن مفاعيل الاقتصاد الفرنسي خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، كانت قائمة إلى حدّ كبير على الأيدي العاملة القادمة من وراء البحار، ولعبت دوراً أساسياً في تقدّم الاقتصاد من جهة، ومن جهة ثانية، في إنعاش التراجع الديموغرافي، في بلد، شأنه شأن بلدان أوروبية عدة، يعاني من تراجع نسبة الولادات.

 لكن أوضاع الفرنسيين من أصول مهاجرة، تعدّ أقل جودة من المواطنين «الأصليين»، في مستويات السكن والتعليم وفرص العمل والأجور، وفي ظل هيمنة الشركات الكبرى والبنوك على الإعلام، والاستقطاب السياسي الحاد، فقد تمّ وضع المهاجرين في خانة الاتهام الدائم، فكل حادثة، أو جريمة، أو سلوك إرهابي، وقبل التحقيق فيها، تكون أصابع الاتهام موجهة إلى فئة المهاجرين، وقد استثمر اليمين المتطرف في مخاوف فئة واسعة من الفرنسيين، عبر شيطنة الأقليات العرقية والثقافية، وتحميلها كلّ اللوم عن مشكلات فرنسا، كأن هذه الأقليات هي من يقود الدولة الفرنسية، أو تضع لها البرامج والخطط.

تسود معظم أوروبا، وفرنسا ليست استثناء، فكرة مفادها أن الاندماج يقوم عبر تبنّي المهاجرين لقيم وسلوكات المجتمع المضيّف، لكن هذه الفكرة التقليدية عن الاندماج، تحمل في داخلها حالة استعلاء، فالمواطنة بحسب هذه الدول نفسها تقوم على الحقوق أولاً، ومن ثم الواجبات، والتي هي واجبات الالتزام بالقوانين العامّة، وليس من بينها شرط التخلّي عن القيم الدينية والثقافية والاجتماعية، لكن الواقع الفعلي يذهب نحو تبنّي فكرة اندماج تقوم على مطالبة المهاجرين بالتطابق الثقافي والاجتماعي مع القيم الأوروبية، وهو أمر غير منطقي، وغير ممكن عملياً، فالتغييرات الثقافية والهوياتية أبطأ بكثير من التغييرات الاقتصادية والعمرانية.

 فشل الاندماج في فرنسا، يتحمل مسؤوليته بالدرجة الأكبر النظام والسلطة السياسية، فهما الطرف الأقوى في المعادلة، كما أن ظاهرة العولمة، لا يمكن الانخراط فيها أحادياً، فقبول الدول الصناعية بالعولمة كنظام لإدارة سوق العمل، ينبغي أن يكون قبولاً بكامل الظاهرة وتحدياتها، وظاهرة الهجرة هي جزء مهم في ظاهرة العولمة.

 الحرب الأهلية، هي في إحدى صورها تمرّد فئات اجتماعية وقتال مع فئات أخرى، من بينها الدولة، وربما أعمال الشغب والتخريب ليست إلا نسخة بسيطة عن حرب كامنة في المجتمع، وتدار بأدوات قانونية، لمصلحة الفئات الأكثر قوة، من حيث المال والسلطة والنفوذ والتعليم والتنظيم السياسي، بينما لا تمتلك الفئات المهمّشة سوى قوّتها الغضبية للتعبير عن أزماتها، لكن هذه القوة هي بالضبط ما يجعل الصراع أبعد من إمكانية اختصاره بصراع طبقي، بل هو صراع أشمل، يشكّل العامل الطبقي أحد جوانبه فقط.

 استيعاب وامتصاص الغضب هو السيناريو الذي تمضي فيه الدولة الفرنسية، لكنه سيبقى علاجاً مؤقتاً لظاهرة أعمق، الخطر فيها أنها لا تأخذ طابع التنظيم السياسي، والبحث عن ممثلين لها، ما يبقيها في حالة عشوائية لا يمكن التنبؤ بجولاتها المقبلة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5c4v29np

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"