دولة تتلاشى وشعب يريد الحياة

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

‎كان لبنان دولة يتباهى بها شعبها أمام العالم، وتهفو إليها أفئدة التوّاقين للحرية والباحثين عن الرفاهية والساعين للنجاح وتحقيق الذات والحالمين بالمستقبل من العرب والعجم، وأصبح اليوم شعباً يعيش على مساحة محددة ولكن لا ينطبق عليها مفهوم الدولة، شعب يتوق لاستعادة الدولة التي ضاعت، ليحتمي بها ويأمن للعيش فيها حتى لو لم تكن ببريق الدولة التي كانت. 

‎لبنان اليوم عبارة عن شعب، يدير فيه كل فرد أو مجموعة أفراد أمورهم بأنفسهم، بعد أن تلاشت الدولة وتهاوت مؤسساتها ولم يتبق منها سوى حكومة منزوعة الصلاحيات، وبرلمان منقسم على نفسه عاجز عن أداء أبسط وأهم وظائفه وهو انتخاب رئيس جمهورية، وجيش أنهكته خلافات الأفرقاء السياسية، ورغم ذلك يحاول الحفاظ على وجوده ووجود كيان ولو صوري للدولة، ولكن مشاكله وعجزه عن تلبية أبسط متطلبات منتسبيه المعيشية يفاقم أزماته. 

‎ليس جديداً أن الأزمات التي تلاحق لبنان تهدد وجوده، وخصوصاً أنها امتدت إلى مختلف المؤسسات الرسمية، وهو ما يطرح تساؤلاً حول ما الذي تبقى من لبنان؟!

‎موقع رئيس الجمهورية شاغر منذ نهاية أكتوبر الماضي، ودولة بلا رأس تكون عاجزة مشلولة، الزمن يسير بالعالم كله إلى المستقبل وهي محلك سر، ليس لها قرار ولا موقف، وعندما يكون الشغور عن سبق إصرار وترصد من حفنة من أبناء الدولة، تكون هذه الحفنة قد اختطفتها وأخذتها رهينة أطماعها ولا تريد لها العودة ولا الوجود، حتى تظل متحكمة فيها ناهبة لثرواتها معطلة لمؤسساتها محتكرة لقرارها مغتالة لطموحات وأحلام أبنائها.   

‎من يلعب لعبة ويفوز فيها، يكررها لأجل مزيد من الانتصارات الوهمية، ولعبة الشغور الرئاسي مارسوها من قبل، وظل الموقع شاغراً قبل تولي ميشال عون لعامين ونصف العام، ووجدوها لعبة مسلية، يستعرضون فيها عضلاتهم ويبلغون رسالات للداخل والخارج أنهم المتحكمون في المنصب الرئاسي، وهم الذين يأتون بالرئيس متى يشاؤون ويخلون الكرسي عندما يريدون، ولذا ليس مستغرباً أن يعقد مجلس النواب 12 جلسة لانتخاب رئيس ويفشل، النواب ليسوا سوى دمى تحركها حفنة من المتحكمين في الداخل، وهذه الحفنة ليست سوى دمى تحركها قوى الخارج صاحبة الأمر والنهي في مصير لبنان. 

‎الحكومة لتصريف أعمال، ليس من حقها سوى تسيير أمور الموظفين إن استطاعت، وليس من حقها اتخاذ قرار ولا تصويب معوج ولا محاكمة مجرم ولا تعيين موظف عام، بل مهمة أعضائها الأساسية أن يتناحروا، ويستقوون على بعضهم بنفوذ لا يملكونه ولكن يُملى عليهم. 

‎أما القضاء فقد أصبح عنواناً للعجز، عجز عن محاكمة المتهمين في أكبر جريمة تفجير تشهدها دولة، وهي جريمة تفجير مرفأ بيروت التي زلزلت الكوكب وهدمت المنازل ودمرت البنى التحتية وقتلت الأبرياء، ولكن لم يهتز أمامها رمش رموز القرار والفساد، وبعد مرور 3 سنوات عليها مازال الجناة يسرحون ويمرحون وينهبون، وأهالي الضحايا يتألمون ويتوجعون في صمت بعد تهديدهم، والمرفأ ليس سوى نموذج لقضايا مجمدة وحقوق ضائعة. 

‎النظام المالي أصبح حديث العالم بعد أن فقدت الليرة 90 في المئة من قيمتها، وبعد أن امتنعت البنوك عن صرف حقوق المودعين، مما اضطر بعضهم لاقتحامها بالسلاح طلباً لجزء من أمواله يسيّر به حياته، وهو ما دفع الناس لتجنب التعامل مع البنوك. تزامن مع أزمة لبنان المصرفية اتهامات ضبابية لحاكم المصرف المركزي وبعض معاونيه والمقربين منه من دون اتخاذ إجراء قانوني حاسم، وسيزيد فقدان الثقة في النظام المصرفي اللبناني انتهاء مدة حاكم المصرف المركزي المشكوك في نزاهته نهاية الشهر الجاري وعدم أحقية أحد في تعيين بديل لينضم إلى المناصب الشاغرة. 

‎أزمات لبنان طالت كل لبناني وانهيار العملة ضاعف نسبة الفقر ورفع عدد المعوزين، والسبب أن معظم المؤسسات اللبنانية تدفع رواتب منتسبيها بالليرة التي أصبحت معدومة القيمة، وأصبح الموظف يتقاضى نحو 10٪ فقط مما كان يتقاضاه، وهو الأمر الذي امتد إلى المنتسبين للجيش والقوى الأمنية، مما دفع بعض الدول لتقديم معونات للجيش حتى يحافظ على تماسكه خلال هذه الفترة العصيبة، خصوصاً أن انهياره  سيؤدي إلى انهيار الدولة وتحكم الميليشيات المسلحة فيها. 

‎لم يتبقّ من لبنان سوى شعب يريد الحياة ويصر على تحدي الصعاب ويحلم بيوم يعود فيه لبنان متماسكاً، وهو ما لن يتحقق في ظل وجود الطبقة التي قادته إلى طريق الانهيار والتلاشي.

 [email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2m3dhnk2

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"