فرنسا تيمّم وجهها شطر إيطاليا

00:35 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تعرف علاقات فرنسا مع محيطها الإقليمي في أوروبا تحولات عديدة بسبب التطورات الجيوسياسية القارية والعالمية التي كان من نتائجها قيام العواصم الغربية بإعادة النظر في العديد من خياراتها الدبلوماسية على ضوء الزلزال الذي أحدثته تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا، وتأتي هذه التحولات أيضاً بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت القارة العجوز نتيجة تداعيات جائحة كورونا، وبعد البركسيت البريطاني الذي زاد من هشاشة الاتحاد الأوروبي وأضعف بشكل لافت التحالف الفرنسي الألماني داخل مؤسسات الاتحاد؛ حيث أفصحت برلين في عدة مناسبات عن رغبتها في الدفاع عن مصالحها الوطنية دون التنسيق مع باريس، وكان ذلك واضحاً خلال الزيارة الأخيرة للمستشار الألماني إلى الصين الذي رفض عرض الرئيس الفرنسي بأن تكون هذه الزيارة مشتركة لتأكيد وحدة المواقف بين دول الاتحاد في التعامل مع الصين.

وأدى تراجع مستوى التنسيق بين باريس وبرلين في العديد من الملفات الاستراتيجية إلى دفع القيادة الفرنسية للتفكير بشكل جدي في إعادة إحياء تحالفها مع دول جنوب أوروبا، لاسيما إيطاليا في محاولة منها لإعادة استثمار مشروع الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي المتعلق بالاتحاد من أجل المتوسط، لأن المصالح الفرنسية ترتبط بالدرجة الأولى بوجودها التاريخي في شمال وغرب إفريقيا وليس بوسط وشرق أوروبا كما هي الحال مع ألمانيا. ويشير الخبراء في هذا السياق إلى أن باريس في حاجة إلى إعادة ترتيب علاقاتها مع روما من منطلق أن العلاقات بين الجانبين استراتيجية حتى وإن كان ينقصها الاستقرار، بسبب سوء الفهم الذي كثيراً ما يؤثر في المصالح المشتركة بين الجانبين.

من الواضح إذن أن فرنسا أعادت حساباتها الأوروبية وقرّرت من ثم أن تيمّم وجهها شطر إيطاليا، ويشير الباحث فريديريكو بتروني إلى أن اتفاقية كيرونال التي جرى إبرامها بين إيطاليا وفرنسا بتاريخ 26 نوفمبر/تشرين الثاني سنة 2021 ، تهدف إلى إعطاء بنية مستدامة للتعاون بين البلدين، وذلك على الرغم من أن الطبقة السياسية في العاصمتين كثيراً ما تلجأ إلى توظيف الجانب الآخر من أجل خدمة الأجندات السياسية الداخلية، كما حدث مؤخراً عندما قام وزير الداخلية الفرنسي بالتهجم على سياسة الهجرة التي تنتهجها حكومة ميلوني من أجل تصفية حساباته مع اليمين الفرنسي بزعامة مارين لوبان.

كما أن اختلاف المصالح بين البلدين في شمال إفريقيا كثيراً ما كان سبباً في ارتفاع حدة الانتقاد بين البلدين؛ إذ إن روما لا تنظر بعين الرضا فيما يتعلق بالتدخلات الفرنسية في الملف الليبي بسب اختلاف الأجندة السياسية بينهما بالنسبة للمستقبل السياسي لليبيا، وكذلك هو الشأن مع الملف التونسي؛ حيث إنه وعلى الرغم من العلاقات التاريخية التي تربط فرنسا بتونس، فإن روما ترى أن الوضع في تونس يؤثر فيها بشكل مباشر فيما يخص ملف الهجرة؛ ويمثل الملف الجزائري في هذا السياق أبرز نقاط الخلاف بين باريس وروما لذلك، فإن بعض المراقبين يرون أن حرص فرنسا على التقارب مع إيطاليا لا يمكن تفسيره فقط من منطلق تراجع علاقاتها مع ألمانيا، وإنما يمكن فهمه أيضاً من منطلق رغبتها في كبح جماح اندفاع إيطاليا نحو تطوير علاقاتها الاستراتيجية مع الجزائر على حساب المصالح التاريخية الفرنسية ذات الخلفيات والأبعاد المعقدة.

وعليه، فإنه وعلاوة على اختلاف المصالح الأمريكية مع مصالح دول جنوب أوروبا، وبخاصة فيما يتعلق بالأمن والاستقرار في البحر الأبيض المتوسط، وتضارب السياسة الضريبية لدول شمال أوروبا بقيادة ألمانيا مع تلك الخاصة بدول الجنوب التي تعاني مديونية كبيرة، فإن روما وباريس مضطرتان لتنسيق جهودهما لمواجهة الصعوبات الاقتصادية الداخلية والتصدي في اللحظة نفسها لتفشي حالة الفوضى في البحر الأبيض المتوسط، من منطلق أن انعدام الاستقرار في إفريقيا يحمل مخاطر جمّة على الأمن القومي لروما وباريس.

هناك إذن حاجة ملحة من أجل تعميق التنسيق بين الجارين لأسباب جيوسياسية واقتصادية عديدة، لكونهما يمثلان أقوى دول جنوب أوروبا، وبالتالي فإنه وعلى الرغم من اختلاف المقاربة بينهما بشأن الأوضاع في شمال إفريقيا أو بشأن التعامل مع تركيا التي تتهمها باريس بدعم التيارات الإسلامية في فرنسا، فإن التحولات الجيوسياسية الراهنة تحتم على الجانبين اعتماد مقاربة أكثر برغماتية لمصالحهما المشتركة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3a9c33bu

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"