في صراع الإمبرياليات

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

بعد ساعات قليلة على الانقلاب الذي أطاح برئيس النيجر المنتخب محمد بازوم، من قبل العسكر، بدأت حملة من الاتهامات المتبادلة بين القوى الكبرى، حول الجهة الخارجية التي دعمت العسكر، أو الجهة الخارجية التي استهدفها الانقلاب، وإذا كانت روسيا هي المتهمة بالضلوع بهذه الخطوة، فإن فرنسا هي المستهدفة من ورائه، مع نفي الجهة الفاعلة لأي مساعدة من الخارج، أو أي استهداف لفرنسا، إلا أن هذه الاتهامات بحد ذاتها، تؤكد نقيضها، أي أن الانقلاب هو نتيجة لصراعات خارجية، أكثر من كونه نتيجة تغيّر في موازين القوى داخل هذا البلد الفقير، والذي يعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية، لكنه غني بالمعادن المهمة للصناعات العولمية، وفي مقدمة تلك المعادن اليورانيوم.

ما يؤكد الرأي القائل بأن الانقلاب هو نتيجة صراع بين إمبرياليات، هي تلك الإعادة السريعة التي قامت بها واشنطن لنحو ألف جندي أمريكي إلى قاعدتها في البلاد، في محاولة لتثبيت وجودها وتأكيده عسكرياً وسياسياً، بغض النظر عن الجهة التي ستحكم، واللهجة الحازمة من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ضد الانقلابيين، وتأكيده ضرورة مراعاة المصالح الفرنسية؛ حيث تعتمد المنشآت النووية الفرنسية، في جزء لا بأس به من احتياجاتها من مادة اليورانيوم، على ما يتم استخراجه من هذه المادة من النيجر.

منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، حدث تراجع كبير في اللجوء إلى التفسير الإمبريالي للصراعات العالمية، فقد أدى سقوط الاتحاد السوفييتي في عام 1991، وصعود العولمة في نسخة الثورة الصناعية الرابعة، إلى تغيير في ديناميات تحليل العلاقات الدولية، خصوصاً أن ما أتاحه التقدم المذهل في التقنية والتواصل من ممكنات للتعاون في مختلف القطاعات الاقتصادية، أوحى بوجود ممكنات موازية في مجال العلاقات السياسية، فقد حدث ربط متسارع لعمليات الإنتاج، وتبادل في أرض المصنع، مع تحويل الكثير من الشركات الأمريكية والأوروبية أماكن إنتاج بضائعها إلى الصين ودول آسيوية أخرى، في الوقت الذي كانت فيه روسيا تحاول تلمّس الطريق المناسب للخروج من الفوضى التي تركها انهيار الاتحاد السوفييتي.

على أنقاض عالم ما قبل العولمة الراهنة (عالم الحرب الباردة)، بزغت مفاهيم جديدة، في محاولة لمنح زخم قيمي وأخلاقي لحركة العولمة، ومن تلك المفاهيم المواطنة العالمية، والتعدد الثقافي، وعصر ما بعد القومية، وفي خلفية هذا البزوغ لمفاهيم جديدة، تتجاوز الإرث الإمبريالي، تقف ضرورات التحوّل نحو عالم اقتصادي/ مالي له ديناميات جديدة؛ حيث تحدث عمليات الربط المالي بين الأسواق، عبر البورصات الكبرى، والمؤسسات المالية العملاقة، وبرمجة اتجاهات الإعلام، وإيجاد ديناميات جديدة للاستهلاك الإلكتروني، وللمفاهيم الجديدة وظائف سياسية عديدة، أهمها منح حركة العولمة وجهاً إنسانياً جاذباً، يدفع الجميع للانخراط فيه، لإعادة برمجة أنماط الاستهلاك على أساس ما فوق قومي، من خلال خلق احتياجات استهلاكية موحدة للبشر، بغض النظر عن جنسياتهم وثقافاتهم.

وإذا كانت السمة الأساسية للإمبريالية هي التوسّع الجغرافي للدول الكبرى، عبر الاحتلالات المباشرة، من أجل وضع يدها على منابع الموارد، وبسط نفوذها على الأسواق، فإن هذه السمة بالذات كانت هدفاً مباشراً لحركة العولمة، تريد إسقاطها، لمصلحة ديناميات جديدة للنفوذ، عبر تشابك وتعقيد العمليات الاقتصادية، التي لا تتيح للدول الأضعف أية إمكانية للاستقلالية، وذلك عبر خلق أشكال تبادلية في ظاهرها، لكن تصبّ من حيث النتيجة في مصلحة الدول الكبرى، والشركات العابرة للقارات.

هذا الاتجاه العولمي التبشيري بعالم جديد في الاقتصاد والعلاقات الدولية، انطلق بشكل رئيسي من الولايات المتحدة، التي وجدت نفسها رائدة للنظام الدولي، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، ومع ذلك، فإن أول خرقين كبيرين لهذا الاتجاه، جاءا من قبلها، عبر احتلالين مباشرين لأفغانستان والعراق، وقد بيّنت التجربة العملية مدى خطأ هاتين التجربتين للولايات المتحدة نفسها، قبل غيرها، ومع ذلك، فإن مسار تجاوز المفهوم الإمبريالي التقليدي، القائم على التوسّع الاحتلالي، يعاني انتكاسات متتالية، فالحرب الروسية الأوكرانية، تعيد الصراع الإمبريالي إلى شكله القديم، وكذلك، الصراع المحتدم على إفريقيا من قبل الغرب وروسيا والصين.

وإذا كان الاتجاه الإمبريالي الجديد، قلّل من الاحتلالات المباشرة، فإنه فتح الباب أمام احتدام المشكلات الإثنية والدينية والاقتصادية، في صيغ ذات حدّة متفاوتة من الحرب الأهلية، ما جعل عشرات الملايين من البشر يسعون للهجرة أو اللجوء إلى دول ذات أوضاع مستقرة ومزدهرة، وفي النتيجة، فإنه أياً يكن شكل الإمبرياليات، أو طبيعة الصراع فيما بينها، فإن الثمن تدفعه الشعوب الأكثر ضعفاً وفقراً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mtsmxjuy

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"