عادي
قراءات

توم لوتز: الإنسان كائن بكّاء

23:32 مساء
قراءة 3 دقائق
  • نظرية «الدموع التطهرية» ظهرت قبل أرسطو

القاهرة: الخليج
البكاء ظاهرة بشرية عالمية، فعبر التاريخ، وفي كل ثقافة، تذرف الدموع انفعالاً، ولابد لكل شخص من أن يبكي في وقت ما، وفي أي مكان، الناس يبكون أثناء المراسم الجنائزية، على سبيل المثال، وفي كل ثقافة، وهناك أناس ينتحبون أثناء الحداد، أما الجنازات التي لا تذرف فيها الدموع، فقد صارت ممكنة فقط عن طريق تأجيل المراسم.

توم لوتز في كتابه «تاريخ البكاء.. تاريخ الدموع الطبيعي والثقافي» ترجمة عبد المنعم محجوب، يؤكد أن النحيب فعل خاص بالإنسان وحده، فلا يوجد حيوان يمكنه أن يذرف الدموع لأسباب عاطفية، لقد زعم البعض أن الفيلة تبكي وتنتحب عندما تلتقي سايسها، أو إذا وبخت، لكن لم يؤكد طرف مستقل، حتى الآن، حقيقة هذه الدموع، فالبكاء خصوصية إنسانية فحسب، كما أن فهم الدموع بصورة أفضل، لا يتأتى من العلوم الطبية والنفسية، وإنما من عدد لا يحصى من التمثلات الشعرية والقصصية والدرامية والسينمائية، التي تعرض الميل البشري إلى البكاء.

تعبر الدموع عن رغبات معقدة ومتناقضة، نحن نبكي جزئياً على الأقل، لأن البكاء يجعلنا نشعر بالتحسن، وقد ظهرت نظرية الدموع التطهرية، منذ ما قبل أرسطو، ما يشير إلى أننا نشعر بالتحسن، بسبب الشعور بالتنفيس، الذي تمنحه لنا الدموع، قد يكون الأصوب ألا نقول: «إن الدموع تحرر عواطفنا»؛ بل إنها تعيد توجيه هذه العواطف؛ إذ يمكن للبكاء أن يزيل الألم النفسي الذي نشعر به ببساطة عن طريق تحويل انتباهنا عنه.

كان صمويل بيكيت يقول: «كلماتي هي دموعي» والدموع نوع من اللغة، وأساسية، في معظم الأحيان، وطريقة من طرق التواصل، يمكن للغة البكاء أن تحقق العديد من الغايات المختلفة؛ حيث لا تعبر عن محنتنا فحسب؛ بل عن مطالبنا أيضاً، لا عن رغبتنا في أن نفهم فقط؛ بل رغبتنا في تجنب انكشاف أمرنا، كما يمكن استخدام دموع التماسيح في نصب الشراك والتشويش والابتزاز والخداع، حتى تلك الدموع التي نذرفها عندما نكون وحدنا في الأغلب لها جمهور متخيل، ويمكننا حتى في أعمق لحظات الحزن والأسى أن نعي جيداً تأثير دموعنا على المحيطين بنا.

هذا الكتاب نموذج من الدراسات البينية، من حيث جمعه بين مختلف الروافد الممكنة التي درست أو أشارت إلى الدموع، أو استخدمت موضوعها بكيفية ما؛ إذ تتضافر هنا الفلسفة والأدب والنقد والكتابة التاريخية وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس وعلم وظائف الأعضاء، والكيمياء الحيوية، من دون أن يرهق القارئ بالإحالة إلى المصطلحات وملاحقتها، في مظانها، أكثر مما يفعل المؤلف الذي يهتم في الكثير من الأحيان بمتابعة الأصول التاريخية والاجتماعية في نشأة المصطلح العلمي، وتطور استخدامه.

قد يشعر القارئ بأن مستويات عدة تتمازج وتندمج في الوقت نفسه، ففي الكتاب أساطير مؤسسة من جهة متصورة، والإيهام الفني من جهة أخرى، والواقع المأساوي من جهة ثالثة، نحن هنا بين ثلاثة مصادر تتدفق منها الدموع، ثلاث طبقات تتبادل فكرة الدموع، وتقدم أمثلة واضحة عن قدرة البكاء على صنع سياقاته الخاصة عبر التاريخ، وعلى ترتيب انفعالات البشر منذ القدم المكتوب إلى المستقبل القريب المحسوس.

يقدم المؤلف هذا الخليط عبر التاريخ، لكنه لا يتوقف عنده في حد ذاته، لأن غايته هي الحديث عن أداء الثقافة في الزمن المعاصر من دون إهمال مرجعيتها، يمكننا أن نتحدث في الفرق بين المشاعر والانفعالات عن مستويين من الوعي المسبق والوعي اللاحق.

يشير المؤلف إلى أن الإغريق والرومان كانوا في طقوسهم الجنائزية يبكون في (مدامع)، وكانت هذه القوارير الصغيرة المملوءة بالدموع في الأغلب تغلق وتدفن مع الأموات، فهي من ناحية كانت وسيلة لدفن مشاعر المرء، ومن ناحية أخرى وسيلة لإجلال الأموات بأن يقدم المرء دموعه كأنها أزهار أو هدايا.

ليست الثقافة المتغيرة فقط هي التي تغير معاني الأشياء، فحياتنا الانفعالية العاطفية، تتغير مع تقدمنا في العمر، وللتغيرات علاقة بما نشعر به، وبما نحتاج إليه من الآخرين في طريقة التعبير الانفعالي، وأنماط المطالب الانفعالية والعاطفية التي نشعر بأن من حقنا القيام بها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mtyeypws

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"