فايق وتجربته.. أقوال أخرى للتاريخ

00:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

في لحظة واحدة، موقف واحد، تلخص معنى حياته كلها، أن يكون أو لا يكون.

بعد أكثر من خمسة أعوام في سجن ملحق بمزرعة طرة تلقى عرضاً من الرئيس «أنور السادات» نقله إليه اللواء «مصطفى كامل» رئيس جهاز أمن الدولة للإفراج عنه مقابل «ورقة صغيرة» يكتب عليها اعتذاراً.

عرْض «السادات» تضمن تأمين جانب معيشي «ستكون فيه مرتاحاً مالياً إلى أبعد مما تتصور». كان ذلك في اليوم السابق من أول أيام عيد الأضحى عام (1976). «بدا العرض صادماً ووجدته مهيناً».

كان تقديره، الذي نقله إلى المسؤول الأمني الكبير: «إنني لم أخطئ في شيء حتى اعتذر عنه، إذا كتبت ورقة الاعتذار فسوف أفقد نفسي من الآن، أما إذا كتب الله أن أعيش فسوف أخرج من السجن وأجد نفسي».. رغم سمته الهادئ فهو رجل صلب.

امتد سجنه لخمس سنوات أخرى، وبعدما خرج عام (1981) عاد إليه في اعتقالات سبتمبر من العام نفسه، التي استبقت حادث المنصة الدموي، الذي اغتيل فيه «السادات».

شاعت تلك الواقعة في الجو السياسي العام من دون أن يتحدث صاحبها عنها، أو يتطرق إليها في مداخلاته وحواراته العديدة.

ربما وجد أن الوقت قد حان ليدلي بأقوال أخرى للتاريخ عن تجربته العريضة في مواقع المسؤولية وعوالم النشر والدفاع عن حقوق الإنسان، لعلها تساعد على بناء نظرة عامة أكثر اتساعاً وموضوعية لما جرى من تحولات وانقلابات سياسية واستراتيجية عاصرها وكان شاهداً عليها، وأحياناً أحد ضحاياها.

يستلفت الانتباه في مذكرات «محمد فايق»، التي صدرت مؤخراً عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، عنوانها نفسه: «مسيرة تحرر».

للوهلة الأولى قد يوحي ذلك العنوان بأن مذكراته سوف تنصب على دوره الجوهري ممثلاً لثورة (23) يوليو في تحرير القارة الإفريقية مطلع ستينات القرن الماضي، غير أن مفهوم التحرر بدا أكثر اتساعاً ليشمل أدواراً أخرى لم يتسن له من قبل الإشارة إليها.

في بداية الثورة شارك بالتخطيط والتنفيذ في العمل الفدائي ضد القواعد العسكرية البريطانية بمنطقة قناة السويس، تحت قيادة «كمال الدين رفعت».

كان ذلك من ضمن أنشطة المخابرات الوليدة، التي ترأسها «زكريا محيي الدين».

سلط أضواء جديدة على تلك الحقبة في التاريخ المصري الحديث، التي يراد التجهيل بها، كأن ثورة يوليو محض انقلاب عسكري. وسلط أضواء أخرى على المقاومة الشعبية التي نظمتها ثورة يوليو لصد العدوان الثلاثي على مصر عام (1956) إثر تأميم قناة السويس.

وقد كان دوره فعالاً.. غير أن دوره الأهم هو قيادة التغيير الكبير في إفريقيا ممثلاً لمصر الكبيرة بزعامتها ومواقفها واستعدادها لبذل التضحيات حتى تأخذ قضية التحرر الوطني مداها.

وردت في مذكراته خفايا وأسرار جديدة ووقائع شبه مجهولة جمعته بقادة التحرر الوطني، خاصة «نيلسون مانديلا»، الذي طلب رسمياً قبل زيارته للقاهرة عقب إطلاق سراحه من سجنه الطويل أن يرى «محمد فايق»، فقد كان بينهما موعداً قبل ثمانية وعشرين عاماً قبل اعتقاله.

فيما هو لافت حديثه عن الدور الذي لعبه بجوار «جمال عبدالناصر» في نجدة نيجيريا من مأزق انفصال إقليم بيافرا، حين طلبت امدادها بطيارين مصريين.

لم يكن ممكناً في ظروف نكسة يونيو إرسال طيارين مصريين بالخدمة، ولا كان ممكناً في الوقت نفسه أن نترك إفريقيا تنتكس بما حدث في مصر.

جرى السماح بالتعاقد الفردي بين الحكومة النيجيرية وطيارين مصريين خرجوا من الخدمة العسكرية لأسباب سياسية. كان ذلك تأكيداً على أن سلامة إفريقيا مفتاح أي سياسة رغم أية صعوبات، كما كتب «فايق»، غير أن بعض التعليقات على هذا الموقف أفلتت عباراتها وأساءت إلى نفسها قبل أن تسيء إلى رجل بحجم «محمد فايق»، الذي ينظر إليه في إفريقيا كأحد آباء حركة التحرر الوطني.

انطوت شهادته عن بدايات عصري «السادات» و«مبارك» على إشارات ذات قيمة كبيرة في قراءة التاريخ. كيف أصبح «السادات» رئيسا؟ وما حقيقية أحداث (15) مايو (1971) التي زُج بعدها في السجن لعشر سنوات كاملة؟

لم يعهد عنه التطرق إليها، ولا الاقتراب منها، لكنه الآن يروي بعض أسرارها وخفاياها نافياً بصورة قاطعة أن تكون هناك مؤامرة استهدفت «السادات»..كان ذلك محض تلفيق.

بعد عشر سنوات من أحداث مايو التقى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» حين جمعهما معتقل واحد فيما وصف ب«ثورة سبتمبر!». بادره «هيكل»: «عندما رحل عبدالناصر أخطأنا جميعاً»، لم يعاودا النقاش فيما جرى لا في السجن ولا بعده رغم اتصال المودة بينهما.

عندما بدأ عصر «مبارك» إثر اغتيال سلفه، وجد نفسه أمام صديق قديم على مقعد الرئيس. في السنوات الخمس الأولى من حكم «مبارك» اقتربا إلى حدود بعيدة.

قام بأدوار ومهام ساعدت على عودة مصر إلى عالمها العربي بعد قطيعة «كامب ديفيد».

فيما رواه بمذكراته أن الرئيس الجديد اشتكى له من «المؤامرات» التي تحاك ضده من السيدة «جيهان السادات»، لكنه كان يتحدث عن «السادات» باحترام في بدايات حكمه على الأقل. نقل عن «مبارك»: «أنا ناصري يا محمد، لكنني لا أستطيع أن أعلن ذلك». المشكلة هنا أن أغلب من جلس على مقعد الرئاسة، حتى «السادات» نفسه، يقول مثل هذه العبارة، لكنه يمضي عكس معناها وسياساتها.

مذكرات «محمد فايق» تستحق أن يحتفى بها بقدر ما تضيء بعض جوانب تاريخنا الحديث.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2wjpzw7k

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"