عادي
واقعية غنية بالألوان عند جوستاف كايبوت

غربة المكان في «شارع باريسي بيوم ماطر»

23:39 مساء
قراءة 4 دقائق
16

الشارقة: علاء الدين محمود

مشاهد تنبض بالحياة والجمال والإبداع، تلك التي نجدها في أعمال الرسام الفرنسي جوستاف كايبوت «1848-1890»، الذي يعتبر من أبرز الفنانين في عصره، كان عضواً في مجموعة من الانطباعيين، وكانت لوحاته هي الأقرب للواقعية من بين جماعته، كما اشتهر باهتمامه بالتصوير الفوتوغرافي أيضاً، ولد في باريس لأسرة ثرية كانت تعمل في مجال النسيج، وكان والده قاضياً، حصل كايبوت على شهادة في القانون عام 1868 ورخصة لممارسة المهنة عام 1870، إضافة لذلك كان مهندساً، كما خدم في الجيش الفرنسي أثناء الحرب الفرنسية البروسية.

انطلقت مواهب كايبوت الفنية في وقت مبكر من حياته عندما بدأ في تعلم الرسم، وبعد وقت قصير قام بتطوير أسلوبه الخاص، فأنشأ الاستوديو الخاص به في منزل العائلة، ورث عن والده ثروة بعد وفاته سنة 1874 وفي نفس هذا العام بدأ بإقامة صداقات مع عدد من الفنانين منهم: إدجار ديجا، وحضر معرض الانطباعيين الأول لكنه لم يشارك فيه، إذ كان ظهوره مع الانطباعيين في معرضهم الثاني عام 1876، فشارك ب 8 لوحات من أهم أعماله الفنية، وكايبوت بصورة عامة من تلاميذ المدرسة الواقعية، وسار على خطى أسلافه جان فرانسوا ميليه، وغوستاف كوربيه، ومعاصره ديجا برسم الواقع كما يراه تماماً، إلا أن أسلوبيته قد تأثرت كثيراً بزملائه الانطباعيين.

لوحة «شارع باريسي في يوم ماطر»، تعد من أشهر لوحات كايبوت، ورسمها في عام 1877، بألوان الزيت على القماش، ووجدت صدى كبيراً ومدوياً، ترصد اللوحة حركة شارع رئيسي بمكانة معلم بارز في شمال باريس أثناء يوم ماطر، وتجوال الناس فيه، واللوحة بصورة عامة تنتمي إلى طريقة كايبوت الذي عرف برسم لوحات الحياة المدنية الباريسية، وظهر ذلك الأمر في الكثير من أعماله، وبصورة خاصة هذه اللوحة، التي تتناول معالم المدينة، بسبب ضخامتها ومنظورها غير المألوف، والفنان اشتهر كذلك بتناول الطبيعة الصامتة، والعديد من المناظر المحلية، والمشاهد العائلية، وشخوص، وأشياء داخلية، ويشير النقاد إلى أن كايبوت على الرغم من أنه كان مناصراً للعديد من الفنانين الانطباعيين، فقد رسم هذه اللوحة بتأثيرات الانطباعية إلا أنها تختلف في واقعيتها وفي اعتمادها على الخط، بدلاً من لمسات الفرشاة العريضة.

وصف

يظهر في مشهد اللوحة عدد من الشخوص يتجولون في وقت يبدو أنه بعد الظهيرة في فصل الشتاء، وذلك يبدو واضحاً من خلال ملمح الضباب وتدرج الضوء والملابس الثقيلة التي يرتديها الناس وهم يتجولون في المكان، يحملون مظلاتهم التي تقيهم من المطر، وعلى الرغم من أن مسرح اللوحة يعج بالشخصيات، إلا أن التركيز فيما يبدو على شخصيتين في واجهة اللوحة هما رجل وامرأة، ولعل اللافت في كل الشخصيات في العمل ارتداؤهم لأزياء باريسية تبدو فاخرة، فشخصية المرأة التي تصطحب الرجل في مقدمة اللوحة، تظهر بفستان بني يغطي كامل جسدها، ومتزينة بأقراط من الألماس، وقبعة ووشاح ومعطف مبطن بالفرو، وكان يعتبر في ذلك الوقت من أحدث صيحات الموضة في باريس، أما الرجل، فهو يظهر بشارب بارز، ويعتمر قبعة عالية سوداء اللون، وكذلك الحال بالنسبة لربطة العنق، مع قميص أبيض وصدرية ومعطف خفيف طويل مفتوح وياقة عالية وسترة ذات ذيل، وفي اللحظة التي يعبر فيها كل من الرجل والمرأة الطريق، كان هناك رجل يعبر في الاتجاه المعاكس لهما في ذات اللحظة، وقد مر إلى جانبهما، وهو يظهر معاكساً لسيرهما على يمين اللوحة، ويبدو أن كل من الرجل والمرأة ينظران إلى الطرف الآخر من الشارع على يسار اللوحة.

وبصورة عامة، تبدو الشخصيتان الرئيسيتان في اللوحة (الرجل والسيدة) ينتميان إلى الطبقة الوسطى، بتلك الهيئة التي يبدوان عليها، وبتلك الملابس الفاخرة، كما أن مشهد اللوحة يعج بالشخصيات والتفاصيل الأخرى، فهناك أيضاً أشخاص ينتمون إلى الطبقة الدنيا في خلفية اللوحة، مثل الخادمة الواقفة عند مدخل البناية في يسار اللوحة، ومصمم الديكور الذي يحمل سلماً ومظلة مثقوبة، ويشير النقاد إلى أن كايبوت قد مارس قدرا من الإبداع بأسلوب لعب فيه على المنظور والشخصيات، حيث يظهر رجل يقفز من فوق عجلة، إضافة إلى أقدام الشخصيات الظاهرة أسفل إطار المظلة، وغير ذلك من التفاصيل التي تبدو غير مكتملة.

قراءة

يلفت بعض النقاد إلى حضور الرؤية المعمارية في اللوحة، لاسيما أن كايبوت يعتبر من الذين درسوا العمارة، فتظهر الأجسام في مقدمة العمل بطريقة غير مركزة، أما تلك التي في المنتصف مثل المارة الذين يعبرون الطريق، فقد رسمت بأطراف حادة، بينما يقل وضوح المعالم الخلفية تدريجياً، كما يظهر جلياً الاقتصاد الحاد في بعض الأجسام، خصوصاً الرجل الذي يظهر في أقصى يمين اللوحة، ما يشير إلى تأثر الرسام بفن التصوير، فجعل منتصف الصورة بارزاً، في حين تتفاوت درجة الوضوح في الشخصيات الثانوية المتناثرة في كافة أجزاء اللوحة.

يلفت نقاد آخرون إلى أن العمل لا يحمل طقساً اجتماعياً حميمياً، فالشخوص في اللوحة متنافرة ومنعزلة عن بعضها، حيث لا يوجد نوع أو قدر من التواصل، وتظهر على وجوههم ملامحهم الكآبة، ويمشون في عجالة، منهمكين بأفكارهم وهمومهم عوضاً عن متعة التجوال، فكل واحد منهم له مشاغله وهمومه الخاصة، ويظهر كل هؤلاء في مشهد اللوحة وهم محميون بمظلاتهم، أو كما قالت الناقدة روز ماري هاجن: «يبدو أن تلك المظلات لا تحميهم من المطر فحسب، بل ومن العابرين أيضا»، فكأن كلا منهم يخشى أن يلتقي بالآخر أو ينظر في وجهه، وتلك من سمات الحياة المدنية التي عكسها الفنان باقتدار في العمل، فقد عمل على تصوير أمزجة الناس في الشارع، تماماً كما كان يفعل معاصروه من كبار الفنّانين الانطباعيين مثل مونيه ورينوار وديجا، وغيرهم، حيث يأتي العابرون إلى المدينة من أرجاء مختلفة، فيمضون فيها وكأنهم غرباء عن المكان، وعن بعضهم بعضاً.

أدب

وجدت اللوحة صدى كبيراً في المجتمع الثقافي والفني، وأشاد بها الكاتب والروائي الشهير إميل زولا في مقال له بعنوان «مذكرات باريسية: معرض الرسامين الانطباعيين»، عام 1877، كما لعبت اللوحة دوراً بارزاً في فيلم عالمي بعنوان «إجازة فيريس بيولر»، عام 1986، وتوجد هذه التحفة الفنية حالياً في معهد الفن في شيكاغو.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2bc6sxnu

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"