عادي
خطة صينية للتفوق على واشنطن في المجال بـ 143 مليار دولار

«حرب الرقائق».. تنافس ومصالح بالتريليونات

00:05 صباحا
قراءة 7 دقائق

د. أيمن سمير

لا يدور التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين فقط حول عدد الغواصات النووية، والصواريخ بعيدة المدى، والمركبات الانزلاقية، والتجسس الاقتصادي والملكية الفكرية، بل باتت السيطرة على سوق وصناعة «الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات» هي الميدان الرئيسي للتنافس بين بكين وواشنطن، لأن هناك قناعة لدى الطرفين بأن من يسيطر على سوق وصناعة الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات سوف تكون له الغلبة الاقتصادية والعسكرية وحتى الثقافية والعلمية، لأن التفوق في مجال الرقائق الإلكترونية بات هو «المعيار الجديد» و«العنوان الأبرز» لقدرة كل طرف على فرض «إرادته السياسية والعسكرية» في بحر الصين الجنوبي ومنطقة الأندو باسيفك، بل هناك من يقول في مطابخ صنع القرارات الصينية والأمريكية، إن النجاح في معركة «الرقائق الإلكترونية» هو المسار الإجباري لتحقيق الأهداف القومية لدى البلدين، وهو المؤشر الحقيقي لبقاء الولايات المتحدة على «قمة هرم القيادة العالمية» أو «صعود الصين» وإزاحة الولايات المتحدة ونهاية القرن الأمريكي، ويزيد من مخاوف الولايات المتحدة في هذا المجال، أن وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاغون»، قالت إنه إذا لم يتم تحجيم حصول الصين على الرقائق الإلكترونية الأمريكية، فإنه بحلول عام 2035 ستستطيع الصين تصنيع وتخزين 1500 رأس نووية تدخل في صناعتها تكنولوجيا أمريكية.

يزيد من حدة التنافس في هذا الملف، أنه خلال السنوات الماضية، كان هناك نوع من «الاعتمادية المتبادلة» بين البلدين في مجالات عدة تتصل بالرقائق الإلكترونية، وأشباه الموصلات، ما يجعل عملية «الفصل الكامل» بين أكبر اقتصادين في العالم عملية شبه مستحيلة، حتى لو كان هذا الشعار هو التوجّه الرئيسي لإدارة الرئيس جو بايدن حتى قبل وصوله إلى البيت الأبيض في 20 يناير 2021، فما هي «حرب» الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات «التي يطلق عليها» النفط الجديد؟ وهل يمكن للولايات المتحدة والصين تجنب الانزلاق إلى حرب طويلة في هذا المجال؟ وماذا لو تفوّقت دولة على حساب دولة أخرى؟

1
بايدن مع زعيمي اليابان وكوريا الجنوبية للاتفاق على مصانع جديدة لأشباه الموصلات

ما هي الرقائق الإلكترونية ؟

تدخل الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات في كل شيء تقريباً، خاصة في الهواتف النقالة والكمبيوتر والسيارات والسيارات الكهربائية ومعدات الدفاع الجوي والطائرات، والأقمار الاصطناعية والمركبات الفضائية العسكرية الانزلاقية والأسلحة النووية، ووصلت قيمة الإنتاج في هذا القطاع لنحو 500 مليار دولار عام 2022، ويتوقع أن يصل إلى تريليون دولار عام 2030، بينما تدخل تلك الصناعة في تصنيع صناعات أخرى تصل إلى تريليونات الدولارات، ولا تستطيع أي دولة الدخول في هذا المجال، لأن كلفة مصنع صغير تحتاج إلى مليار دولار على الأقل، كما أن تصنيع الرقائق يحتاج إلى أكثر من 3 أشهر كاملة، وهو ما تسبب في نقص واضح في صناعة السيارات خلال المشاكل التي تعرضت لها سلاسل الإمداد في فترة جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وبدأت هذه الحرب في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، لكنها أخذت شكلها الحالي في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، خاصة أنه اتخذ قراراً في عام 2020 بإدراج الشركات الصينية العاملة في مجال تكنولوجيا الرقائق الصناعية وأشباه الموصلات في «القوائم السوداء» الأمريكية، ومنذ ذلك الحين ممنوع على الشركات التكنولوجية الأمريكية تصدير الرقائق الإلكترونية فائقة التطور إلى الصين، لكن إدارة الرئيس جو بايدن أخذت «خطوة متقدمة أكثر» حتى قبل أن ينجح الرئيس بايدن في انتخابات نوفمبر 2020، عندما تضمن البرنامج الانتخابي للحزب الديمقراطي لانتخابات عام 2020 مبدأ «الفصل الكامل» بين الاقتصادين الأمريكي والصيني، والهدف من هذا هو «تعميق الفجوة التكنولوجية» بين الصين وأمريكا اعتماداً على حسابات أمريكية تقول إن النمو الاقتصادي والتكنولوجي الصيني، جاء بعد الانفتاح الأمريكي على الصين عام 1979، وكلما تم فصل الاقتصاد الصيني عن الأمريكي، ظلت الصين خلف الولايات المتحدة تكنولوجياً واقتصادياً وعسكرياً. وفي أكتوبر 2022، قرر الرئيس بايدن فرض عقوبات على أي شركة أمريكية أو من شركات الحلفاء في أوروبا تقوم بتصدير الرقائق الإلكترونية المتقدمة إلى الصين، وأوضح مثال على هذا الأمر أن الدول التي سبق أو وقّعت اتفاقيات مع شركة هواوي حول تكنولوجيا الجيل الخامس، مثل كندا وبريطانيا وإيطاليا، اضطرت في النهاية إلى إلغاء تلك العقود بدعوى أن هذه الشركة تهدد الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية.

1
الصناعات الحديثة تعتمد على الرقائق الإلكترونية

خط الدفاع الأول

وتقوم حسابات الرئيس الأمريكي جو بايدن للحفاظ على تفوّق الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وكوريا الجنوبية وأستراليا واليابان، على أن وضع «ضوابط صارمة» في تصدير الرقائق الإلكترونية للصين يُشكّل «حائط الصد الأول» للانتصار في المنافسة الاستراتيجية على الصين، ولا تزال تحتل الولايات المتحدة الأمريكية الصدارة في هذا المجال بصادرات تصل إلى نحو 200 مليار دولار، لكن الحصة الأمريكية في السوق الدولي تراجعت من 37 % عام 1990 إلى أقل من 22 % في الوقت الحالي، بعد أن دخلت الصين هذا المسار بقوة عام 2015، عندما بدأت تطبيق شعار «صنع في الصين» على الرقائق الإلكترونية، ولمواجهة هذا النمو الصيني ولاستعادة مكانتها السابقة، قامت الولايات المتحدة بسلسلة من الخطوات وهي:

1- تشجيع الشركات الأمريكية على الاستثمار في الرقائق الإلكترونية عبر إقرار الكونغرس حزمة مساعدات لتلك الشركات، وصلت إلى 53 مليار دولار، لمساعدة هذه الشركات على التكيّف في مرحلة عدم بيع منتجاتها للشركات الصينية، كما منعت الولايات المتحدة بشكل كامل أي مواطن أمريكي أو مقيم على الأراضي الأمريكية مساعدة الصين في برامج أو معدات تطوير مصانع إنتاج الرقائق الإلكترونية، وتعتقد الولايات المتحدة أن التفوق في هذا المجال هو ما سيضمن لها الفوز في «المعركة الجيوسياسية» مع الصين.

2- منعت واشنطن الاستيراد من شركات الرقائق الإلكترونية الصينية، حيث ترى الولايات المتحدة أن الأموال التي تدفعها الشركات الأمريكية لنظيرتها الصينية تسهم ليس فقط في تطوير هذه الشركات الصينية، بل تدعّم الجيش الصيني في مسعاه للتفوق على الجيش الأمريكي.

3- منعت الولايات المتحدة استحواذ شركات صينية على مصانع للرقائق الإلكترونية، سواء على الأراضي الأمريكية أو حتى لدى حلفاء واشنطن، على سبيل المثال أوقفت ألمانيا استحواذ شركة سويدية تابعة لمجموعة صينية على مصنع «إلموس» الألماني في دورتموند لشركة «سيليكس ميكروسيستمز إيه بي» السويد، وهي مملوكة لمجموعة «ساي ميكروسيستمز» الصينية.

4- خلق شراكات أمريكية مع حلفائها لتشكيل تحالف دولي في صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية، مثل بناء مصانع للرقائق الإلكترونية بالشراكة مع دول مثل كوريا الجنوبية واليابان وفيتنام وهولندا وبريطانيا وألمانيا.

5- تشجيع حلفاء الولايات المتحدة على الاعتماد على الولايات المتحدة لحين اعتمادهم على النفس في هذا المجال حتى لا تتكرر مشكلة اعتماد الأوروبيين على النفط والغاز الروسي وفق الرؤية الأمريكية.

خطط التنين

منذ عام 2015، أدركت الصين أن المنافسة القادمة لها مع الولايات المتحدة، سوف تكون في حقل الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، لهذا بدأت سلسلة من الخطوات التي ساهمت بالفعل في أن تكون الصين «رقماً صعباً» في معادلة الرقائق الصناعية، وقامت هذه الاستراتيجية على مجموعة من الخطوات وهي:

أولاً: الاعتماد على الذات، فالصين تدرك أن الصناعات التكنولوجية التي تعتمد على الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات تستحوذ على نحو 50 % من الناتج القومي الصيني الذي بلغ نحو 14 تريليون دولار عام 2022، وتعتمد الصين على المنتجات التايوانية، للحصول على الرقائق الإلكترونية، وهو ما يزيد الضغوط على الصين التي تقوم رؤيتها الجديدة، ليس فقط للتغلب على هذه التحديات، بل للتفوق والسيطرة على سوق الرقائق الإلكترونية، وجاءت هذه الخطوات الصينية بعد أن فرضت حكومة الرئيس جو بايدن ضغوطاً هائلة على شركات التكنولوجيا والرقائق الأمريكية، حتى لا تبيع منتجاتها إلى الصين، لهذا لجأت بكين إلى «التصنيع الذاتي» لتلك المكونات، حتى لا تنتظر شراءها من الولايات المتحدة، وعلى سبيل المثال، نجحت شركة «هواوي تكنولجيز» العملاقة التي فرضت عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عقوبات كبيرة، نجحت في استبدال 13 ألف مكون من المكونات الداخلية في هواتفها المحمولة من منتجات أمريكية بات من المحظور بيعها للصين، وأعادت هواوي من خلال استثمار نحو 30 مليار دولار تصميم 4000 قطعة من لوحات الدوائر الكهربائية لمنتجاتها.

ريادة صينية

ثانياً: رصدت الصين نحو 143 مليار دولار للرقائق الإلكترونية لإنفاقها على 3 مراحل، الأولى مرحلة الاكتفاء الذاتي من الرقائق الإلكترونية، والثانية منافسة الشركات الغربية والأمريكية، والثالثة الوصول إلى المكانة الأولى والريادة في مجال الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات، وتقوم هذه الخطة على عدد من الخطوات، أهمها تقديم إعفاءات ضريبية غير مسبوقة لمدة 5 سنوات متواصلة، حيث تسعى بكين للوصول إلى الاكتفاء الذاتي عام 2030، إضافة إلى تقديم قروض لدعم أبحاث وإنتاج الرقائق الإلكترونية.

ثالثاً: تستهدف الصين الوصول بالمبيعات في هذا المجال إلى 150 مليار دولار عام 2025، وأن تتفوق على أقرب حليف للولايات المتحدة في مجال الرقائق الإلكترونية، وهي تايوان التي تصدّر منتجات من الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات تصل إلى نحو 600 مليار دولار سنوياً.

رابعاً: «تقليل الاعتماد على الخارج، فهناك اتفاق في الصين على مبدأ يقول بأن الاعتماد على الخارج في مجال الرقائق الإلكترونية بات محفوفاً بالمخاطر، وهذا يتطلب تعزيز سلاسل الإمداد المتعلقة بالرقائق الإلكترونية، وذلك من خلال الاعتماد على سلاسل إمداد غير خاضعة لتأثير وسيطرة الولايات المتحدة، وإصلاح ما يسمى «سلاسل الإمداد الضعيفة».

خامساً: «أمة مبتكرة»، وذلك من خلال تشجيع مزيد من براءات الاختراع عبر تسهيل تسجيل براءات الاختراع في هذا المجال الحساس، وتسعى الصين للتخلص من الاتهامات الغربية لها بأنها «أمة مقلدة وليست أمة مبتكرة في مجال الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات».

سادساً: تدريب الكوادر الصينية على هذه الصناعة، وتوفير كافة أشكال التمويل لهم، مع العمل على الحصول على الموارد الأولية النادرة اللازمة للرقائق الإلكترونية.

مشروع عربي للرقائق

يطرح هذا التنافس وذاك الصراع، فرصة أمام الدول العربية لبناء مشروع عربي ل«الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات»، لتوفير الاكتفاء الذاتي في هذا المجال الحيوي للتنمية العربية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2ahrdxwf

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"