عادي
عقبات تعترض مستقبل الشعر

ديوان العرب سيظل صياد القلوب

22:08 مساء
قراءة 7 دقائق

الشارقة: أشرف إبراهيم

هناك كثير من العقبات التي تعترض مستقبل الشعر، منها ما يتعلق بالتعليم، فنحن لا نعرف مستوى الشعر الذي يدرّس في مراحل التعليم المختلفة، وهل تحث المناهج على حب الشعر أم لا؟ ومنها ما يرتبط بتراجع النقد وتوجه كثير من الشعراء إلى كتابة الرواية، ومنها نضوب بعض الشعراء وجفافهم وابتعادهم عن الساحة، وهناك رفض دور النشر لطباعة دواوين الشعر، ورحيل كثير من كبار الشعراء خلال العقود القليلة الماضية، ودخول الذكاء الاصطناعي على الساحة الأدبية.. كثير من العقبات باتت في طريق الشعر، ويكفي أن تكون الساحة الثقافية مهجوسة بالسرد على مستويات عدة، لندرك مأزق الشعر المعاصر. وفي هذا الملف من «الخليج الثقافي» نلقي بالضوء على أبرز هذه العقبات التي تواجه فن العرب الأول.

من يبحث عن مستقبل الشعر كمن يرقص على جراح مفتوحة وعن سيرة قد تثير الشجن في قلوب محبيه، فهو وإن كان غير قابل للاستبدال على مر الزمن كونه الفن الأجمل في مسيرة اللغة والخيال والجمال، فإن انكساراته عديدة، وعقباته تتراكم وهو يجر عربته نحو المستقبل، ولا يمكن في الوقت نفسه أن يطالب بوظيفة أخرى غير التي صنعت جلاله ومهابته وجعلته يستلب العقول والأفئدة في كل الجهات وفي الأزمنة كافة، فقد مر الشعر بتحولات وظلت أنماطه محل تأمل واكتشاف، فهو على طاولة الأيام يقاوم تيارات أخرى من الآداب تطغى عليه أحياناً لكنها لا تصيبه بالجمود، تكبله لكنها لا تعيقه عن الطيران وحرية الحركة، تثقله بالظلال الكثيفة والتحولات التي تحدث هوة وقطيعة بين الأجيال، لكنه صامد كجبل شامخ.

لكن ماذا عن الزمن المتغير وصعود الذكاء الاصطناعي ومفاهيمه الأدبية الصادمة؟ وماذا عن هذا النأي الذي تقترفه دور النشر في حقه وتفضل عليه آداباً أخرى ليست بكفاءته ومحتواه؟ وماذا عن النقد الذي لم يذق ثمرته الشعراء ودواوينهم كما كان في الماضي وهو غارق في بساتين أخرى؟

ولماذا أبناء الشعر أنفسهم اتجهوا للرواية وهم ولدوا ليضيئوا كالشهب في سمائه، وإلى أي مدى ستظل مناهج التعليم تضعه في خانة ضيقة لا تليق بمجده ولا تكترث بفضاءاته الوسيعة ورصانته، وتصر على أن تضعه على الهامش ولا تلحقه بما يستحق رغم ازدحام شجرته بنظامه من عظماء اللغة والبيان؟ وهل ستظل وسائل الإعلام تجافيه وتمنحه قدراً أقل من قيمته ونداه، ومتى سيأخذ الشعراء حذرهم وهم يتجولون في طرقاته وخلجانه ووديانه وأنهاره بخيالاتهم الزاهية في راهنه وفي الزمن الغامض القادم بقوة التغير وما يكتنفه من صعود للعالم الرقمي المتنامي غير المعلومة بوادره في قادم الأيام؟

هذه أسئلة عابرة قد تكون لها إجابة في عقول وقلوب بعض الشعراء الذين يشاركون في هذا الاستطلاع ل «الخليج» حول مستقبل الشعر والعقبات التي قد تعترضه على قارعة الأيام والسنين.

ضفة واحدة

يؤمن الشاعر أحمد العسم بأن الشعر يواجه تحديات ليس في عالمنا العربي فحسب، بل على المستوى العالمي كون إسهاماته في الثقافة لا حدود لها، وهناك مؤشرات تؤكد أنه سيمر بزمن مارق تتربص به أدوات عصرية تفوق التصورات، فاتجاهات كتابه حائرة لا تستريح على ضفة واحدة وهو ما يجعله يقع فريسة للخذلان في بعض الأحيان من الأداة النقدية التي لم تعد تطارد ضوءه ولا تصوب ملكاتها تجاه غابات صوره، وكثافة تعبيراته التي تمنح اللغة بريقها المتجدد، فقد انزلقت اليد النقدية نحو مجاهل أخرى في الأدب وانصرفت عن فن العربية الأول الذي غطت حيله البلاغية عصور كاملة من الإبداع الشعري الذي التقط كل تفاصيل الحياة بما يسحر القلب والعين، وما يتلبسها من مواقف وحكايات، فهو اللغة الواحدة التي يفهمها الجميع وآفاقه ممتدة بالأسى والبهجة وكل ألوان الغناء، ولم يغادره الزمن رغم هذا الجفاء النقدي الذي لم يعد يلمس شجرته وطيوره وبواعثه الحرة التي تحتاج بالفعل إلى رعاية تضيء على تجاربه المرئية، وهو ما يجعل النظرة المستقبلية للشعر في ضوء غياب النقد تفيض بالحسرة.

ومع ذلك، فإن العسم مازال يؤمن بأن ثمة مستقبل للشعر مهما حاصرته الهموم والأحزان وسوف يظل صياد القلوب وسيعمر الزمن الآتي بعبقرية لغته وكثرة رواده ومريديه.

عين مشرقة

وتنظر الشاعرة د. عائشة الكعبي إلى مستقبل الشعر بعين مشرقة رغم ما يكتنفه من كبوات في راهنه وفي مستقبله، فلا حيلة لأحد في نسيانه مهما بذر الآخرون من أشواك في طريقه، فهو بكلماته التي تدوي في سمع الزمن، وبنبرته المدهشة يهدر بألقه بين الناس، فصوت الشاعر عاصفة من فرح وبكاء، وأغنية تحاصر العقول، وتمنح رجفة لمن يستلذ بجماله ويشم رحيقه بصدق وعفوية، لكنها تشعر بأن ما يسهد الشعراء هو هذا الوصال الجاف الذي ابتدعه الإعلام مع هذه الفئة التي كانت تحظى قديماً برقعة واسعة من الضوء في كل ممراته، وتتساءل الكعبي أين ذهب ذاك الاستدعاء الجميل للأصوات الشعرية لتلون شاشات التلفاز وتنطلق عبر الأثير وتبرز أيضاً عبر حبر الصحف وأوراقها التي كانت تفرد الصفحات للأقلام المسكونة بعطر الخيال والنغم فيقفز خلفها القراء ليتذوقوا رحيق الكلمات على عشب البهجة؟ وهل ستظل هذه القطيعة مستمرة في الزمن القادم؟ إذ لا يخامر عائشة شك في أنه مهما خفتت ظلال الشعر فإنه سريعاً ما يعود ليصعد بضوء آخر فيطرق كل باب، ويلمس برفيفه كل نافذة لأنه يمتلك الوجازة التي تجعل أداة البحث مستمرة تسأل عنه ليطوق الحياة دائماً بالجمال وفتنته الطاغية.

أداة جافة

يرى الشاعر أحمد المطروشي أن تصور شكل الشعر في المستقبل أمر صعب إذ مر بتحولات منطقية في تاريخه الطويل، بدءاً من شكله العمودي إلى التفعيلة إلى قصيدة النثر، فالزمن هو زمن الحداثة والجميع يلهث بفكره إلى معرفة ما بعد الحداثة، وعلى الرغم من تطور أنماط الشعر فإن المطروشي ينظر إلى عقبة الذكاء الاصطناعي ودورها في تشكيل عالم الأدب في المستقبل على أنها خدعة غير مجدية في تغيير مسار الشعر في القريب العاجل، فقد أثبت فشله من منظور قريب حين منحه المطروشي الفرصة للتعبير عن العواطف الإنسانية، فكانت النتيجة كما تصور أداة جافة في الصور والتراكيب، ليؤكد أن الشعر الحقيقي باق مهما تعثرت خطى الشعر وظنت الأداة التكنولوجية أنها قادرة عليه، فهو الدواء في تصوره لكل روح تواقة للجمال ولرائحة الكلمات، فالشعر لا نظير له في كل الكتابات الأدبية، وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف مستقبله فإن المطروشي يتمنى أن تظل حديقته قابلة لازدهار زهوره وأشجاره الباسقة وثماره الشهية، بخاصة أن توقعات ظروفه خارجة عن قدرة العقل على تصور ساحته في آتي الأيام.

نبض

على الرغم من قناعة الشاعر فارس البلوشي بأن روح الشعر ستظل تنبض في كل زمان ومكان إلا أن خطوات بعض الشعراء المرهفة نحو الرواية قد تحد من روح القصيدة بداخلهم، فهم يستهلكون من جسد اللغة الشعرية الكثير وهو ما قد يصب في مصلحة الرواية، كون لغة الشعراء مكتسية بعطر الخرافة، فموسيقاها موزعة بعناية وظلالهم التعبيرية تفوق كل ظلال، لذا فإن الخاسر الوحيد في هذه المجازفات هو الشعر خاصة أن هجرة الشعراء للرواية أصبحت عابرة للزمن، والتحولات سريعة، وسر هذا الجنوح لم يتكشف بشكل واضح، لكن الشعراء أضافوا إلى حقل الرواية، وفي ظن البلوشي أن هذا السباق لن ينتهي في المستقبل وقد يشكل عقبة بعيدة المدى لو تكاثرت الأعداد وتوفر الشعراء لإعادة هندسة البناء الروائي الذي يتسع مداه في أفق الشعراء المتوجين ببهاء الكلمة وروعتها على مر الزمن، فربما تحدث عزلة للشعراء غير مقصودة تفصلهم عن كتابة القصائد وتضعهم في خانة الحكائين الماهرين الذين جرفتهم الرواية إلى مسارات بعيدة تجعل نتاجهم الشعري يتضاءل.

رياح غير آمنة

ويعي الشاعر جمال علي إبراهيم ما يحيق بالشعر العربي من عقبات وما قد يصادفه من مشكلات في مستقبله، فهو يرزح تحت ضغوطات عاصفة تحرمه من مشاركته بشكل حر في الساحة الثقافية كغض الطرف من قبل دور النشر عن طباعة دواوين الشعراء بالكثافة التي كانت موجودة سابقا، فضلاً عن الكثير من العقبات التي تعمل ضد مصلحته، ورغم كثرة العوارض إلا أن جمال علي يرى أن المداد الذي يكتب به الشعراء لن يجف وأنهار الحبر وملايين الصفحات كلها مطوعة للكلمة، وأن الشعر وإن كبلت أجنحته رياح غير آمنة فإن مطره سيظل يفيض من كل سماء وأن الشوارع التي تعج بالناس ستظل في انتظار رذاذه وأن نجماته ستظل مضيئة دون استثناء، لأنه وسادة أحلام البسطاء اللينة، وأمل المغتربين في الأرض للعثور على ذواتهم، وبسمة المحبين في زمن طغت فيه الآلة وأصبح كل شيء فيه معلباً، لذا لن تهز الشعر العقبات في المستقبل لكن طعمه قد يتغير بتغير العصر ومتطلباته، فما نستسيغه اليوم قد لا يروق لغيرنا في الأيام القادمة.

عودة

ويتعجب الشاعر عبدالله السبب من قلة الملاحق الثقافية التي كانت متوفرة بكثرة للشعر الفصيح وقد ضاقت بها ذرعاً الصحف، ولم تعد تولي اهتماماً للشعر كما كان في السابق، ويتساءل: هل ستظل تتضاءل تلك المساحات التي يحتاج إليها الشعر في صفحات الإعلام المكتوب خصوصاً أنه في زمن مضى كانت تمثل جسرا بين القراء وجمهور الشعر وبين إبداعات الشعراء، فهذه الملاحق أضحت قليلة رغم غزارة النتاج الشعري هذه الأيام، ويدرك السبب وأن عودة هذه الملاحق من شأنه أن يساند ثورات الشعر وتحولاته في المستقبل، وهو يطمح إلى أن يأخذ الشعر مكانه الطبيعي في الساحة الثقافية، سيما وأن لغته لا تجاريها لغة، فهو لصيق بالأحداث وبالإنسان ويتماهى مع مشكلاته بخفة وجمال، ومن الضروري أن يكون للشعراء موقف حتى لا يأتي زمان يكون فيه الشعر غريباً، وحتى لا يكثر الأدعياء الذين تعج بهم صفحات التواصل، فيظنون أن إعصارهم القادم هو الذي سيشكل طبيعة الشعر مستقبلا.

اقرأ أيضاً

سلم القصيدة الصعب

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3dzc8auf

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"