الفن ومذاهبه في الواقع العربي

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

ألا يبدو لك العالم العربي عجيباً؟ عندما تتأمل الحياة العامّة، تراها وكأنما هي من تصميم أوساط وتيارات فنيّة من آخر صيحات الحداثة وما بعد الحداثة. في مسرح الواقع اليومي، وفي جميع المستويات، يذهلك اللامعقول الذي لم يحلم به أوجين يونيسكو. اطمئن فالداديّة لها مكانها ومكانتها. في الفنون التشكيلية التي تشكّل وقائع أيّام الأنام، يأخذها سندباد الخيال على بساط رياح المقادير، من السياسات السوريالية إلى الاقتصادات التجريدية، عبر شطحات الملصقات والمونتاج.
في الإمكان الجزم بأن تلك التيارات الفنية لم تشُقَّ لها طريقاً في يوم من الأيام، إلى الجمهور العربي، فقد ظلت على مدى عقود مديدة منحصرةً في مستورديها ومستنسخيها ومقلّديها، وفي فئة من النقاد الذين جاروها وداروها، حتى لا يُوصَموا بأنهم متخلفون عن ركب أعلام روّادها في الغرب. أمّا عن السلاح الذي يجعل ألسنتهم تطول، فقد أهداه إليهم شاعرنا الكبير أبو تمّام، الذي قيل له: ما لك تقول ما لا يُفهم؟ فقال: وما لك لا تفهم ما يقال؟
تلك المذاهب الفنية لم تستطع يوماً، من 1920 إلى يومنا هذا، أن تجد لها أحضاناً دافئةً في الذوق العربي العام، لكن المذاهب كأفكار مجردة، استطاعت أن تكون أذكى من الأعمال الفنية التي تنتمي إليها. الدادية والسوريالية واللامعقول والتجريدية وما شاكلها، احتلت غاليريهات الحياة العامة، أصبحت وأمست بوصلة الواقع الذي يتحكم في كل شرايين اللّاتنمية في الإدارة والاقتصاد والتعليم والصحة والبنى التحتية والعدالة الاجتماعية واستقلالية القضاء وحريات الفكر والرأي والتعبير.
لو سمحنا للخيال بالانجراف إلى متاهات «لو» لجاوزنا أساطير الأولين والآخرين: لو لم يكن للعرب غير سلّة الغذاء العربي السودانية وفوقها نفط العراق وليبيا فقط، لتخطّى مستوى المعيشة لدى الأربعمئة مليون عربي، مستوى معيشة السويسريّين. لكن تأمل الفن ومذاهبه البوهيمية الغرائبية، كيف ضاعت في قفار الشعارات الحزبية وأوهام التنظير الواهي، فإذا شعوبٌ عدةٌ تصحو على واقع داديّ سوريالي لامعقول، فلا تنمية ولا حريات ولا كرامة، بل احتلال واستعمار جديد ونهب داخلي وخارجي، وشعوب في تشرّد وشتات. 
المشهد المذهل هو أن المدارس الفنية الحداثوية وما بعد الحداثوية نضت عنها إطارات اللوحات وقواعد المنحوتات والأشكال الشعرية والنثرية، وخرجت إلى واقع الحياة لتجعل أيام تلك الشعوب داديّة سوريالية تكعيبية تجريدية، مجرد ملصقات وقصاصات في مونتاجات غرائبيات الديمقراطية والعدالة والتنمية الشاملة وإسعاد الأوطان.
لزوم ما يلزم: النتيجة التغييرية: ألا تكفي الصورة للاقتناع بأن العالم العربي في حاجة ماسّة إلى مذاهب فنية تصحيحية، واقعية، طبيعية، مستقبليّة؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/t44hh32c

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"