عادي

«سد الموت» في درنة.. قصة انهيار أطلق العنان لسيل قاتل

18:49 مساء
قراءة 5 دقائق

«الخليج» - متابعات

في الوقت الذي سجلت فيه كميات هائلة من المياه خلال ساعات معدودة كان يفترض أن تتجمع خلال عام بأكمله، خلف سدين على مجري وادي مدينة درنة الليبية، ضغط منسوب المياه الكبير علي السدين بدرجة فاقت قدرتهما على التحمل، ما أدى إلى انهيارهما وإطلاق العنان لسيل هائل اجتاح المدينة التي يقع أكثر من نصفها في وجه المجرى المتحدر من أعالي جبل الأخضر وحتى المصب في قلب البحر المتوسط، ما خلف آلاف القتلى والمشردين.

وعلى الرغم من مرور أيام على أسوا كارثة عرفتها مدينة درنة الليبية على مر التاريخ، لم يستفق الليبيون بعد من هول الصدمة، فعداد الموت لم يتوقف على أرضهم منذ اللحظة الأولى بعد انهيار حواجز المياه، ليطلق على أحدهما لاحقاً «سد الموت».

وفي آخر حصيلة للضحايا أعلنها الهلال الأحمر الليبي مساء الخميس، أن العاصفة دانيال قتلت حتى الآن 11 ألف شخص وخلّفت أكثر من 10 آلاف مفقود.

  • نشأة السدود

وتعرّضت مدينة درنة تاريخياً لسلسلة من الفيضانات، بما في ذلك في الأعوام 1941 و1959 و1968. لكن فيضان عام 1959 كان الأشد وقعاً على المدينة.

في أعقاب ذلك، أشارت دراسات في ستينات القرن الماضي إلى أنه ينبغي بناء السدود لحماية المدينة من الفيضانات.

وبالفعل بنت شركة يوغسلافية السدين في السبعينات، وأطلق على السد العلوي اسم سد البلاد، بسعة تخزين تبلغ 1.5 مليون متر مكعب من المياه، في حين أن السد السفلي، سد أبو منصور، كان بسعة تخزينية تبلغ 22.5 مليون متر مكعب.

وبُني السدان بقلب من الطين المضغوط مع درع محيط من الحجر والصخور، وعانت درنة على وجه الخصوص من الفيضانات في عام 1986، لكن السدود نجحت في إدارة المياه لتجنب إلحاق أضرار جسيمة بالمدينة.

  • توقعات وتحذيرات

ولم تباغت كارثة الفيضان الناجم عن دانيال الليبيين أو المنطقة عموماً، حيث نشرت أبحاث علمية، العام الماضي، إلى أن درنة معرّضة لخطر السيول المتكررة، عبر الوديان الجافة.

ودعا وقتها الباحثون إلى اتخاذ خطوات فورية لضمان الصيانة المنتظمة للسدود في المنطقة، محذرين من مغبة وقوع سيول عارمة، ستكون كارثية على السكان في الوادي والمدينة.

لكن الأوضاع الأمنية التي تعيشها البلاد وانتشار تنظيمات إرهابية في درنة، وحالة الانقسام السياسي، منذ أكثر من عقد، تحكمت بالأولويات فوقعت الكارثة.

وبرزت إثر الكارثة ادعاءات بأنه جرى إهمال صيانة السدين لوقت طويل. ويبدو أن هياكل السدين التي بنيت قبل 50 عاماً كانت متهالكة بالفعل.

وأدى انعدام وجود أنظمة صرف فعالة وبنى تحتية وقائية أخرى إلى جعل المناطق المحيطة أكثر عرضة للفيضانات.

وفي ورقة بحثية نشرت العام الماضي، قال عالم الهيدرولوجيا عبد الونيس عاشور من جامعة عمر المختار الليبية: إن الفيضانات المتكررة في الوادي، تشكل تهديداً لدرنة.

وأشار إلى حدوث 5 فيضانات منذ عام 1942، ودعا إلى اتخاذ خطوات فورية لضمان الصيانة الدورية للسدود.

وأرجع عاشور المشاكل التي تهدد حوض وادي درنة إلى أسباب عدة، منها «حدوث بعض الأضرار في المنشآت الهيدروليكية القائمة والمتمثلة في سدي وادي درنة، وذلك بعد فيضان عام 1986».

وأضاف أن تكرار الفيضانات من حين إلى آخر أصبح يشكل تهديداً مستمراً لسكان الوادي ومدينة درنة.

ويعد تآكل التربة في الحوض بسبب مياه السيول مصدر قلق كبير يؤثر سلباً في الغطاء النباتي، بحسب عاشور.

وتضمنت الورقة البحثية تحذيراً مفاده بأنه إذا حدث فيضان هائل، فإن النتيجة ستكون كارثية على سكان الوادي والمدينة.

إلى ذلك، يلعب الاقتتال المسلح الطويل الذي عاشته البلاد وضعف الحكومة إلى مزيد من إهمال البنى التحتية وهشاشتها.

  • آلية انهيار السدين

ونسبياً لا يعتبر حجم سدي وادي درنة كبيراً جداً، بالمقارنة مع سدود آخرى في المنطقة، كالسد العالي في مصر أو سد كاريبا في زامبيا، حيث يبلغ ارتفاع السد الأول نحو 70 متراً فقط، بينما يصغر السد السفلي عنه بقليل، وبمجرد انهيار الأول، انهار الثاني أيضاً.

وفي لحظات الكارثة الأولى، لم يكن على السد الأكبر مواجهة الأمطار الغزيرة التي كانت لا تزال تتساقط في العاصفة فحسب؛ بل تعرض، أيضاً، لموجات من المياه الهائجة التي انطلقت بقوة من خلف السد الآخر.

واختلاف الارتفاع بين السدين الأول والثاني، عزز قوة المياه وضاعف شدة التيار، حيث نزل التيار بالسد الثاني في طريقه إلى درنة وفي النهاية إلى البحر.

وعند نزولها من النهر، انتقلت المياه نحو 12 كيلومتراً (سبعة أميال) من قمة السد الأول قبل أن تصل إلى البحر.

ويقدر الخبراء أنه تم إطلاق 30 مليون متر مكعب من المياه عند انهيار السد، أي ما يعادل 12 ألف حمام سباحة أولمبي.

وعلى الرغم من عدم وجود تفاصيل حول طريقة بنائه، فإن تقارير متطابقة أكدت أنه كان مبنياً من التربة والصخور، ولم يكن هيكلاً خرسانياً مرتفعاً جداً ومدعوماً بخزانات ضخمة، كطبيعة السدود.

ولقد تم بناؤه للسيطرة على الفيضانات التي يمكن أن تتدفق عبر الوادي الجاف خلال فترات ندرة الأمطار؛ إذ لم يكن مصمماً لمواجهة إعصار كبير مثل الذي ضرب المنطقة خلال الأيام الماضية.

وصمم السد وفق موقع «غلوبال سيكيريتي» للاستجابة للظروف المناخية التي كانت سائدة في منتصف القرن العشرين، وليس تلك التي نعرفها الآن منذ بداية القرن الحادي والعشرين.

  • مناظر مهيبة

وتداول مستخدمو الوسائل الاجتماعي، فيديوهات التقطها ناجون من المدينة، توثق مشاهد بداية تدفق مياه الوادي المهيبة وارتفاع منسوبه حتى غاب طرفاه وسط المياه، فيما كانت السيارات تطفو أعلاه وينقلها عبر تياراته بشكل قوي وسريع.

وأظهرت فيديوهات آخرى تحول السدين إلى ركام من الأتربة بعدما كان ارتفاع الأول يتجاوز ال70متراً ويتجاوز ارتفاع الثاني ال45 متراً.

  • الجثث في كل مكان

ويقول ناجون من المدينة المنكوبة إن مئات الجثث لا تزال مطمورة تحت أطنان الوحول والأنقاض المتراكمة.

وروى عبد العزيز بوسمية (29 عاماً) المقيم في حي شيحا في درنا والذي نجا من الفيضانات، متحدثاً لوكالة «فرانس برس»: «كانت المياه تحمل وحولاً وأشجاراً وحطاماً من الحديد، وعبرت كيلومترات قبل أن تجتاح وسط المدينة وتجرف أو تطمر كل ما كان على طريقها».

وأضاف بتأثر: «فقدت أصدقاء وأقرباء، منهم من طمروا تحت الوحل، ومنهم من جرفتهم المياه إلى البحر».

ورأى أن السلطات الليبية لم تتخذ التدابير الضرورية لتدارك الكارثة؛ بل اكتفت بإصدار تعليمات إلى السكان بملازمة منازلهم تحسباً للعاصفة دانيال التي ضربت تركيا وبلغاريا واليونان قبل أن تصل الأحد إلى ليبيا.

ويكشف عدد أكياس الجثث التي وزعت في المدينة عن حجم المأساة، وأفادت اللجنة الدولية للصليب الأحمر وحدها عن تأمين 6 آلاف منها.

  • غياب التنسيق سبب آخر

وبعيداً عن إهمال صيانة السدود، رأى الأمين العام للمنظمة الدولية للأرصاد الجوية بيتيري تالاس، الخميس، أنه لو تم التنسيق بشكل أفضل لكان بالإمكان إصدار إنذارات ولكانت هيئات إدارة الحالات الطارئة تمكّنت من إجلاء السكان، ولكنا تفادينا معظم الخسائر البشرية.

وأضاف لصحفيين في جنيف، أن سنوات من النزاع في ليبيا دمرت إلى حد كبير شبكة الأرصاد الجوية، والأنظمة المعلوماتية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mpaz36wp

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"