نصر أكتوبر وأكاذيب إسرائيل

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

في تاريخ الأمم أيام فارقة، لا تسقط من الذاكرة بالتقادم، وتظل حاضرة في الوجدان، باعثة على الفخر، ملهمة للأجيال، تزداد لمعاناً كلما حرص صُناعها أو ورثتهم على استعادة أحداثها وسرد تفاصيلها وتوريث الاعتزاز بها من جيل إلى جيل، ومن هذه الأيام في التاريخ العربي، السادس من أكتوبر عام 1973، يوم العزة والكرامة، ومحو العار وتجديد الثقة بقدرات الإنسان والجندي العربي، وبتخطيط القائد العسكري، وتجسيد وحدة القرار العربي، والتفاف الأمة حول الجندي المقاتل.

خمسون عاماً مرت على انتصار القوات المصرية والسورية على إسرائيل في معركة غيّرت موازين القوى وبدلت ملامح الخريطة وحجّمت الغرور الإسرائيلي، ولكنها لم تقض عليه بشكل كامل، والسبب أن الدولة التي قامت على الأكاذيب لا تستطيع أن تتخلى عن الكذب وسيلة في الدفاع عن وجودها واستلاب حقوق أصحاب الأرض المادية والمعنوية، تمارس الكذب ليس على الآخر فقط، ولكن على الذات أيضاً، فرغم أن الانتصارات التي حققها الجيشان المصري والسوري من البديهيات التي لا تخطئها العين ولا تنكرها الأكاديميات العسكرية العالمية، إلا أن بعض الإسرائيليين ينكرونها حتى اليوم، محاولين خداع الرأي العام في الداخل والخارج، وتبرير الضربة القاصمة التي وجهها إليهم الجندي العربي بأساليب وطرق مختلفة، متوهمين أنهم وحدهم يمتلكون الحقيقة، رغم أن تاريخهم يؤكد بأنهم قد يجيدون تلفيقها وتسويقها وسط أتباعهم، ولكنهم يعجزون عن تسويقها عالمياً.

بعد نكسة 1967، روجت إسرائيل أن جيشها لا يقهر، وشككت في قدرات الجيوش العربية، وأصبح ذلك كما اليقين في الداخل الإسرائيلي ولدى الشعوب المنحازة لها، ورغم أن الحرب بين مصر وإسرائيل انتهت بقرار وقف إطلاق النار عام 1967، إلا أن الغرور دفعها لمواصلة أكاذيبها وادعاءاتها، ففقدت التوازن ولم تستوعب الضربات المصرية المتلاحقة خلال حرب الاستنزاف والتي بدأت فعلياً بعد أيام من النكسة، بمعركة رأس العش في أول يوليو/تموز 1967، ثم إغراق المدمرة إيلات في 21 أكتوبر، وامتدت إلى الخارج بإغراق مصر الحفار الإسرائيلي في المحيط الأطلسي، لتلحق ذلك معارك بدأت في يونيو/حزيران 1968 واستمرت عامين متواصلين، وكانت مصر ترسل من خلال حرب الاستنزاف أو «حرب الألف يوم» كما أطلق عليها الرئيس جمال عبدالناصر وشاركت فيها مختلف قطاعات القوات المسلحة، رسالة للعالم بأن مصر لن تقبل سوى بتحرير سيناء مهما كانت تكلفة ذلك.

أقرت إسرائيل بالهزيمة عقب الحرب، وتزلزلت الأرض تحت أقدامها، ووصفتها الصحافة، بالزلزال وبالعاصفة وبالإعصار وبالصفعة، واستغاثت خلالها غولدا مائير بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بنداء «أغيثونا من الطوفان المصري»، لتقيم أمريكا جسراً جوياً وجسراً بحرياً لتزويدها بأحدث الأسلحة، وأمهر الخبراء العسكريين الذين خططوا لهجوم مضاد أفشلته القوات المصرية.. وأقرت القيادات العسكرية والأمنية بالهزيمة عبر التصريحات حينئذٍ والمذكرات فيما بعد، وشكلت إسرائيل لجنة «أغرانات» في نوفمبر للتحقيق في أسباب فشل الجيش الإسرائيلي خلال الحرب، واستجوبت القيادات السياسية والعسكرية الرئيسية وأهمهم رئيسة الوزراء غولدا مائير، ووزير الدفاع موشيه ديان، كما أقالت كلاً من رئيس الأركان ومدير المخابرات العسكرية وقائد الجبهة الجنوبية، وقيادات أخرى، وعلى أثرها استقالت الحكومة.

أقرت وثائق أرشيف الجيش الإسرائيلي التي تم الإفراج عنها وهي بآلاف الصفحات بالهزيمة، ورغم كل تلك الحقائق والأدلة والاعترافات، ما زال الإعلام الإسرائيلي وبعض القيادات ينكران الهزيمة، مدعين أن مصر لم تنتصر، وهو ما يتسق مع نهج الأكاذيب الإسرائيلية التي تسعى من خلالها إلى تغيير الثوابت الجغرافية وتزوير الحقائق التاريخية، ولعل فيلم «غولدا» الذي أنتجته هوليوود مؤخراً عن سيرة حياة مائير، من الأعمال التي تسعى بها إسرائيل وأمريكا للنيل من انتصار أكتوبر والذي يتناول المعركة على أنها معركة شنتها «المعتدية» مصر على «المسالمة» إسرائيل، وهو ما يفرض على الإعلام والفن والدبلوماسية المصرية والعربية، دحض ما تروج له إسرائيل، وتكريس فكرة وحقيقة أنها معركة تحرير انتصرت فيها مصر وسوريا بمساندة ودعم عربي على إسرائيل. إنها معركة جديدة تشنها إسرائيل وتفرض التصدي لها حتى لا تسرق التاريخ، وهي المشهود لها بالتغيير والتزوير والاستيلاء على كل ما يمكن الاستيلاء عليه، ولم ينج منها لا التراث ولا الأزياء ولا المأكولات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3rjkv53r

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"