من أين يأتي الألم؟

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن
في لحظة، راح أحد شخوص الأديب الإيرلندي، صمويل بيكيت، في إحدى قصصه، يتحدث عن أنواع الألم، ودرجاته. كان الرجل يخاطب شخصاً آخر قائلاً له: إن الإنسان ليس آلاماً فحسب، لذا فإننا لا نعرف آلامنا جيداً، ونفضل الهروب من الحديث عنها. لكنه يضيف: سيأتي يوم أبوح لك فيه بآلامي الغريبة. ثم راح يميّز بين هذه الآلام التي يمكن للإنسان أن يشعر بها، ومنها: آلام الفكر والإدراك، آلام القلب والآلام العاطفية، آلام النفس والروح، ثم في المرتبة الأخيرة آلام الجسد: الآلام الخفيفة المتوارية، ثم الآلام المكشوفة، بدءاً من ألم الرأس، وانتهاء بآلام القدمين.

كاتب آخر، عربي هذه المرة، هو الروائي إبراهيم الكوني، توقف أمام هذا التقسيم للألم بين ألم الروح، وألم البدن. وتساءل في روايته «القبر»: «أنّى لآلام البدن أن تتفوق على آلام القلب؟ لو وجدت آلام البدن السبيل لابتلاع آلام القلب لما تألم أحد. بوسع ألم القلب أن يزيل ألم البدن». وما لم يقله الكوني هو أن بإمكان ألم النفس أن يضاعف من ألم البدن. ويحدث أننا لا نشكو من شيء البتة في أجسادنا، ولكننا مع ذلك نشعر بأن كل مفصل من مفاصلنا يجلب الوجع، وحين نتأمل ملياً في الأمر سرعان ما نكتشف أن الألم يأتي من النفس، من الروح.

والألم حتى في أشدّ حالاته جماعية، كما في حال الحروب والكوارث، وحولنا منها الكثير، يظل ألماً فردياً، نحن نحسّ ببشاعة الألم ووطأته عند من يتألمون، لكن هل بوسعنا وصف ألمهم؟ كيف يمكن صوغ وجع طفل مكلوم في فلسطين، أو سوريا، أو غيرهما في كلمات؟ بكاء الطفل ووجعه هما اللغة ذاتها. الألم يعاش فقط، ولا يوصف، وحتى مقدرة الناس على الشعور بالألم متفاوتة. للبعض جلود غليظة تقيهم من هذا الشعور الذي يتطلب درجة من رهافة الإصغاء لا للذات وحدها، وإنما للآخر، لندرك بواعث الألم في الحياة، وهي كثيرة، ولا ينمّ هذا عن حساسية إنسانية عالية فحسب، وإنما هو معيار لحساسية أخلاقية أيضاً، تجعل المرء أكثر مقدرة على التمييز بين حقّ الأشياء وباطلها، وتحديد الجائز وغير الجائز.

«لا يصرخ النبيل إلا إذا تجاوز الألم حدّه»، يقول الكوني. ويظل صحيحاً أن معيار ما دعوناه بالحساسية الأخلاقية ليس تحسس آلامنا كأفراد فقط، وإنما في مقدرتنا على تحسس آلام الآخرين، وفي الغوص في أعماق النفس البشرية، والنفاذ إليها، واستجلاء ما يعصف بها من أوجاع في لحظات يشعر فيها أصحابها بأن لا حول لهم ولا قوّة، فيما أوجاعهم تتفاقم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/39tfc84k

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"