نصنع الملابس أم تصنعنا؟

00:10 صباحا
قراءة دقيقتين

حكى سلامة موسى، مرّةً، عن رحالة أوروبي قطع مئات الأميال في غابات إفريقيا وجبالها، وقضى بين سكانها سنوات عدة، ومع ذلك لم يكن يهمل حلق لحيته كل صباح كي تبقى صورته لدى من هم حوله ثابتة لا تتغير. سلامة موسى وهو يورد هذا المثال لم يكن معنيّاً بحلق اللحية كل صباح، وإنما بالمظهر الذي يقدّم الإنسان به نفسه إلى الآخرين، والملابس ليست وحدها ما يساعد المرء على تقديم نفسه، فما أكثر ما تخدعنا المظاهر، ولكن ما أن ينطق من بهرنا شكله بأول جملة أو جملتين من حديثه حتى نتيقن من زيف انطباعنا، ومع ذلك فللملابس دورها في تكوين الانطباع عن الأفراد.

لم يسأل سلامة موسى في مقاله «اللباس والشخصية» السؤال الوارد في العنوان، ولكن شكسبير هو الذي قال «الملابس تصنع الإنسان»، فضلاً عن أن مجمل حديث موسى يحملنا على طرحه، فهو، أي موسى، كاد أن يقطع بأن هذه الملابس تصنعنا، ولو إلى حدود، رغم استدراكه بالقول «إننا لا نبالي إذا كان شخص مثل المهاتما غاندي يلبس شملة من القطن، لأنه قد غرس في أذهاننا صورة راقية لشخصيته»، معها لم يعد مهماً كيف هو قوامه أو ماذا يلبس.

يُدهشنا في سلامة موسى اهتمامه بالتفاصيل. من كل تفصيل صغير يمكن أن يقدّم رؤية جادة ومقنعة لموضوع نمرّ عليه عابرين، لا نتوقف أمامه، ربما لفرط بداهته، لكن موسى ومن هم على شاكلته بوسعهم أن يُسائلوا حتى البداهة ويفككوها، ليس بالضرورة بهدف تفنيدها، فما أكثر البدهيات التي تنمّ عن وهم، وإنما أيضاً لرؤية جوانب خفية فيها لا تراها إلا العين اللاقطة للتفاصيل.

«لسنا جميعاً غاندي»، يقول موسى، لذلك فإننا نحتاج إلى العناية بملابسنا لكي نسلك السلوك الاجتماعي الحسن، ونؤثر التأثير الفعال، ولا يقف الأمر عند حدود الصورة التي نريد تقديمها عن أنفسنا إلى الآخرين، وإنما أيضاً للإعلاء من صورتنا أمام أنفسنا، وهو ما عبّر عنه الكاتب بقوله: «نحسّ الهوان والضعة إذا كانت ملابسنا رثّة بالية، ونحسّ الكرامة والكبرياء إذا كنا في ملابس لائقة».

باعث على الغرابة أن سلامة موسى لم يقف عند حقيقة أن حسن المظهر والملبس لا علاقة لهما بالضرورة بارتداء ملابس لا يقوى على شرائها سوى المقتدرين مالياً. هناك فرق بين حسن المظهر الذي ندعوه أحياناً بالأناقة، ومرض المظاهر المتفشي بين ظهرانينا، والذي قد يدفع حتى من هم ليسوا أغنياء لاقتناء أزياء وساعات وإكسسوارات وسيارات باهظة الثمن، للفت الأنظار.

وإن كان من خلاصة يمكن أن ننهي بها القول فهي أن أرقى ما في الأناقة بساطتها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2m6f5x8f

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"