عادي

المواجهة الصعبة

01:15 صباحا
قراءة 6 دقائق

تتعدد الأصوات الشعرية التي تحرك الأوتار على تراكيب لغوية توظف الإيقاع كوسيلة لتشكيل الرؤية الفردية للكون، أو صياغة الخيال لتوظيف عملية التماهي مع الواقع ونقد الحياة بكل بواطنها، وإشباع اللذة في اقتناص معنى مباشر، أو اصطياد خيال بعيد خلال اللعبة التعبيرية التي تشكل خيوط المعنى في الشعرية العربية القديمة والحديثة، غير أن الكتابة القريبة إلى لغة الحياة اليومية في نظر البعض تعبر عن رؤية خاصة لنصوص الكثير من الشعراء، إذ تبلور استراتيجيتهم الجماهيرية في مد حبال الغواية للمتلقي بحيث يكون التدثر في ذلك بروح الإيقاع الممزوج بطزاجة المعنى، مفعماً بالإلقاء الحميم المتمثل في درجات الصوت وانخفاضه أو ارتفاعه، فيتسلل هذا النوع من الشعر كضوء إلى الثقوب المفتوحة للجمهور، أو فئة منه بحسب استيعاب الذائقة لنماذج شعرية تكشف عن رؤيتها لمثل هذه النصوص، ما يترسخ في وعي القارئ تلك الاختراقات المباشرة التي تنسف حواجز اللغة الثقيلة التي يراها بعض المتلقين كجلمود صخر حطه السيل من عل.

ذائقة

يتجه بعض الشعراء إلى تقنيات أخرى من الإبداع، تعتمد على استراتيجيات الخطاب الشعري الذي يعبر عن تجربة حيوية متلبسة باستعاراتها الرمزية أو أدائها النخبوي، وغموضها المتقلب في علاقتها بصوت القصيدة وذائقة المتلقي، بما يخلق حالة من الإغراق في غموض متصاعد يرهق المتلقي في بعض الأحيان، ويجعل الشاعر لا يتورع عن القول: إن المتلقي لا يهمه وإنه يكتب لنفسه بكل جنوح العرامة الشعرية، وإذا كان لكل شاعر نسقه الإبداعي، وللجمهور ذوقه المتخيل، فإن كلا الطرفين يبحث عن الفروق المميزة في الأداء الشعري، وهو ما يخلق حالة من التنوع، لكن من الصعب أن يرضي كل طرف بالآخر إلا بتوافر شروط القناعة الذاتية، والاحتكام إلى الذائقة الفنية، وهو ما يفرض احترام تجارب الآخرين من الشعراء، واحترام ذائقة الملتقى باعتباره شريكاً في صياغة مستقبل الشعر.

تنوع الأساليب

وإذا كان علينا أن نحترم التجارب في صياغة الحياة والفكر دون التردي في بئر القوالب الجامدة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه كيف يتقبل كل منهما الآخر؟ ونحن نعيش صراعاً في واقع متغير في الأداء الشعري نفسه، وتحولاً واضحاً في استيعاب الأجناس الشعرية الأخرى لدى بعض المتلقين، في ظل اعتماد شعراء على طرح رؤاهم التي تعبر عن تجاربهم الفردية، وعوالمهم الداخلية في هذا العصر، فضلاً عن أن بعض النقاد يرون أن وظيفة الشعر تضاءلت، وأن الشعر المغنى هو الذي يمثل الحبل السري الواصل بين المبدع وملايين المتلقين على تراوح بين الصياغة الفصيحة حيناً والعامية في معظم الأحيان، وذلك قبل أن تفقد اللغة الملحنة دورها في التشكيل الغنائي لتحل محلها الحركة في التعبير عما كانت تحتشد به الكلمات قبل عصر الصورة، غير أنه يحسب للشعر العربي أنه فتح المجال لتنوع الأساليب بما أغنى طابع القصيدة

العمود والتفعيلة

على الرغم من الهجوم الذي ينال القصيدة العمودية مثلاً في هذا العصر، من أنها فقدت الكثير من جمالياتها لاعتماد بعض الشعراء على تقليد السابقين عليهم، واستعارة مفرداتهم، فإنها لا تزال حاضرة في الفضاء الشعري بفضل وجود أصوات شعرية مجددة تمزج الأشكال وتنوع في الصيغ، وتكرس شعريتها في إطار الحداثة من دون افتعال أو تغريب وبما تفرضه الذائقة العامة، والأمر كذلك في قصيدة التفعيلة التي أحدثت إبان حضورها في المشهد العربي انقساماً حول مشروعيتها لكنها أكدت حضورها بتوازن واتساق رغم حيرة الكثير من المبدعين والمتلقين بين الانحياز إلى القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة.

قصيدة النثر

وفي الإطار ذاته، فقد أحدثت قصيدة النثر جدلاً واسعاً في صفوف الشعراء والمتلقين معاً، ومن ثم اتهام من يكتبونها بعدم القدرة على امتلاك الإيقاع الموسيقي، وأن جمعاً غفيراً من الشباب يتخذونها أداة للإبداع، سواء القادر منهم على كتابتها في أداء خلاق، أو الذين كتبوها هرباً من جحيم الإيقاع، وإنكار الأشكال الشعرية السابقة عليهم، لكن تظل معايير الجودة الفنية هي التي تحكم هذا الخلاف، حيث إن التجريب أمر مشروع، والتنافس بين الأشكال الأدبية يوجه دفة الإبداع نحو الخلق والابتكار حتى وإن ظلت العلاقة بين الشعر والمتلقي في مأزق بسبب التنافس وإنكار مشروعية بعض الأنماط الشعرية التي أدت إلى الالتباس واختلاف الذائقة لدى الأجيال الجديدة.

خوف وترقب

من المهم النظر إلى لحظات الخوف والترقب التي تنتاب الكثير من المتلقين فور تعمد الشاعر إلقاء مطولة شعرية تعتمد في شروطها على التقليد الممض، بحيث يستهلك فيها مفردات النص، سواء بتراتب أو بدرجات مرنة تنبثق عن شعور بالامتلاء اللفظي، وحيل التقديم والتأخير، والتنغيم في استهلاك الحروف عبر نبرات متلونة، تظهر في ثناياها الفخامة والضخامة والتهويل إن جاز ذلك، هذا النوع من الشعر خصوصاً في هذا العصر يرهق المتلقي رغم التكرار الموسيقي في تشكيل الصورة السمعية، خصوصاً أن التقنيات الجديدة في الشعرية العربية أعادت خلق الصورة عبر شحنها بدلالات متراكمة تستقطر التجربة في إطار يبرز حيوية القصيدة دون إطالة أو ملل، ولعل العوامل التقنية في البناء والصورة، وكثافة الخيال تشكل جملة من النصوص المشبعة جمالياً عبر الخبرة الفنية التي تبهر الجمهور، وتحيل اللقاءات المباشرة إلى معطيات حقيقية للإبداع، وكلما قلت الصنعة وطغى العنصر الجوهري للشعر المنتقى من أعماق الروح تسللت شفيرات النصوص الإبداعية إلى المتلقين في فضاءات تُوسع دائرة التلقي، حيث تكتسب العلاقة بين الطرفين بعداً متخيلاً مفعماً بروح الشعرية الدافئة، وعلى الرغم من ذلك فهل من الممكن أن يضحي الشاعر تضحية أليمة فيترك توثُبَه المنطلق ويختصر قصيدة مطولة، أو يضفي عليها نوعاً من الاقتصاد اللغوي الشديد؟ فعند كثير من الشعراء التضحية صعبة، فالشعر هو الذي يمنح الخلود مهما كانت هناك صعوبات في المواجهة مع الآخر، خصوصاً أن القيمة الإنسانية التي تحدد شروط الإبداع لدى الشاعر هي التي تؤرقه كل يوم لكونها مرتبطة بقيمة الحرية.

معايير إبداعية

إن الثقافة العالية لدى المتلقي عامل جوهري في فهمه للكثير من الأعمال الشعرية، فاللغة تعتمد على الثراء المعرفي، والمتلقي الواعي لا ينفك عن شروطها الحيوية ومرونتها الداخلية وإيقاعها الملموس، فبمجرد الشعور بالطرب للاستماع لصيغ جميلة دون فهمها حالة منتشرة بين طيف من المتلقين وعدم القدرة على الأخذ بزمام مبادرة فهم النصوص المتحررة من اللغة الاعتيادية في كل الأجناس والأنماط الشعرية لكونها تخضع لعوامل تركيبية ودلالية ومعطيات غير اعتيادية، تجعل المتلقي ينفر من أصحاب هذا النوع من الشعر القابل للتأويل، وهو ما يولد صراعاً آخر تختلف فيه المشارب والمعطيات، فكيف تتدرب الذاكرة النابضة على تقبل مشروعات مختلفة في معاييرها الإبداعية عما درجت وتربت عليه في الثقافة العربية.

تجارب جمالية

ولا عجب من أن تتفاوت معايير القبول والرفض، فلا يزال هناك من ينكر مشروعية العديد من الأجناس الأدبية، سواء من الجيل السابق المتمسك بتراثه، أو الجيل الرافض لكل ما تخلق في تراث السلف، فالتعنت من قبل الطرف الأول يزيد من تمرد الطرف الثاني، ورفض الطرف الثاني لكل ما صدر من تراث الأسلاف يخلق قلقاً في عملية التواصل، وفي المقابل جمهور المتلقين أيضاً في حالة انقسام، إما مع أنصار القديم وإما مع أنصار النمط المستحدث في الشعرية العربية، وإذا كانت هذه الإشكالية التاريخية تتجدد في كل العصور بدرجات متفاوته، فإنه لا يمكن تجاهل تراكم الخبرات، أو إغفال احترام المبدعين الحقيقيين الذين يغوصون في التجارب الجمالية في حياتنا المعاصرة، ويتلمسون مواطن السخاء الشعري عبر نصوص تمتلك مقومات إبداعية تستحق الإشادة التي تخلو من الهوى الشخصي، والتعصب دون الاتكاء على معايير نقديه خالصة، ومن هنا يكتسب الإبداع ميزاته الجمالية في الفنون والآداب دون الوقوع في فخ الجدل الصاخب الذي لن يؤدي إلا إلى القطيعة وبناء علاقات متوترة.

أبو تمام والجاحظ

وما من شك في أن علاقة الشعر بالتلقي قديمة وراسخة، سواء كانت متناغمة أو قائمة على الجدل، وقد ذكر لنا التاريخ هذا الحديث الذي دار بين أبي سعيد الضرير وأبي تمام، حيث قال أبوسعيد: «يا أبا تمام لم لا تقول ما يفهم» ورد أبو تمام: «وأنت يا أبا سعيد لم لا تفهم من الشعر ما يقال؟!» فأبو تمام لم يفتح المجال لصاحبه في حوار مفتوح، لكنه رد بإيجاز متهماً غيره بأن عليه أن يستوعب ما يكتب.

وأنشد رجل قوماً شعراً فاستغربوه، فقال: والله ما هو بغريب، ولكنكم في الأدب غرباء، وقال الجاحظ: كما لا ينبغي أن يكون اللفظ عامياً، ولا ساقطاً سوقياً، فكذلك لا ينبغي أن يكون وحشياً، إلا أن يكون المتكلم به بدوياً أعرابياً، فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى زهير أشعر الناس لأنه لا يعاضل بين القوافي، وليس وحشياً في الكلام، ولا يمدح الرجل إلا بما فيه، وهنا دلالة أخرى على أن الوجدان العربي يحتفي بجماليات القصيدة، ويعطي الحق لمن يجيد فنونها في الخلق والإبداع.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/j8fy2vuk

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"